من دهشة البداية إلى بداية الدهشة
في البدء،
كانت الرغبة وكانت الرهبة. دهشتان: واحدة تأسرك قبل شق الطريق، وأخرى تأخذك نحو
العميق. هكذا رحلة العمر حلبة وسباق. في مدينة هي مرفع رأسي وجدتني مشدودا إلى سحر
فضائها الجغرافي مغمورا بفيض ثرائها الأدبي. لعله فعل الإغراء لمن كان، وقتها، في
مثل سني. ولم يخب ظني حين تتلمذت على يد نخبة من المعلمين غرسوا في رأسي حب
القراءة وعشق البحث ولذة الكتابة.
فمن أين
أبدأ وللدهشةِ امتدادات. يعود اهتمامي بالبحث إلى سنوات الدراسة والتحصيل، بالسلك
الثانوي تحديدا، أيامَ كانت العودة إلى بعض المصادر والمراجع ضرورة معرفية
ومنهجية. أيام كان السؤال، مهْـما بَـدا بسيطا، مـدْعاةً للتأمل وإعمال النظر.
لم أكتفِ
بالمدرسة فضاء للتعلم؛ فقد جعلتُ من خزانة المدينة ملاذيَ الأثير أعمق فيها، ما
أفدته من درس الأدب. كنتُ في كل زيارة أقرأ أعمالا نقدية وإبداعية، من
المشرق تارة ومن المغرب تارة أخرى، قبل أن أتعرف إلى بعضها في المقرر
الدراسي. كان إغراءُ البحثِ في فهارس الخزانة وجاذبية العناوين، أحد
الأسباب وراء شغفي بالمطالعة والمُساءلةِ والحوار.
وفي الجامعة
كبُـر السؤال وعـظُـمَ المقال. لحظتها، دهْـشتي جاوزت المكان إلى دهشة تمسُّ طبيعة
الدروس والمحاضرات. هالني ما عاينته من تباعد في المواد وتفاوت بين المدرسين في
الحضور والعطاء. ظللتُ حريصا على المتابعة وعقدتُ صداقة وطيدة مع خزانة الكلية
وأنشطتها المختلفة. أقرأ الكتبَ وأحاورُ الأصدقاء وأحضرُ الندواتِ ما استطعْتُ،
وأتابعُ ما تـيسّرَ لي فهمه من المناقشات العلمية لبعض الرسائل والأطاريح
الجامعية.
كان يعتريني
فضولٌ وذهول. تُراني أكون كما أشتهي أن أكون؟ هل أصيرُ ذات يوم، باحثا؟ وهل أستطيع
تحمل المشاق وتخطي العقبات؟ كيف لي أن أحقق ما أريد؟ ومن يضمن لي ركوب المغامرة؟..
أسئلة وأخرى ألْهَـبَـتْ طُموحي، فأعْـلنتُ التّحـدّي ضدَّ نفسي وضدَّ كل الصعوبات
الممكنة. صعوبة الجمع بين العمل، كأستاذ بالسلك الإعدادي ثم الثانوي، والتنقل بحثا
عن المعلومة أينما وجدت. صعوبة الفصل بين الالتزام المهني والالتزام الأسري. صعوبة
التوفيق بين زمن التدريس وزمن البحث. وصعوبة تلو أخرى.
كان عشقي
للأدب وفنونه، خلال السنوات التي قضيتها بالجامعة، ، يزداد يوما عن يوم. وظل هاجس
القراءة، في المتون السردية والشعرية على حد سواء، يحرك في داخلي كثيرا من القضايا
والأسئلة العالقة؟ خضت غمار البحث، لأول مرة، في موضوع أدبي لنيل شهادة الإجازة
(1990). ولعلها أرّخت لبدايتي الحقيقية مع الدهشة، دهشة البداية. كنت قد اقترحت في
هذا البحث مقاربة نقدية لمكون "المكان" في قصص الكاتب إدريس الخوري،
فيما اعتمادي على المنهج كان مزاوجة بين الوصف والتحليل.
تلا هذا
العمل، بحث تحليلي آخر، لنيل شهادة استكمال الدروس (1997)، في موضوع "تجربة
الغربة في شعر الملك يوسف الثالث" أحد ملوك بين الأحمر بالأندلس، بعدما تلقيت
دروسا نظرية وتطبيقية عمّقت نظرتي إلى الأدب المغربي في تواصلاته الثقافية،
بالأدبين الأندلسي والمشرقي. وخلال البحثين معا، استعنت بما توافر لدي، مرحليا، من
مؤهلات معرفية ومنهجية.
وتستمر دهشة
البداية مع مشروع بحث للحصول على شهادة الدكتوراه (2002). بحث في أدب الغرب
الإسلامي، من خلال أسئلة إشكالية من قبيل:
كيف
السبيل إلى قراءة هذا الأدب، في امتداداته المتعددة؟ ما المنهج العلمي الذي يسعف
تحليل نصوصه، شعرا كانت أم نثرا؟ أية فترة زمنية قمينة بالفحص والمعاينة أكثر من
غيرها؟ هل تسعف المقارنة لبيان مظاهر تأثير هذا الأدب وتأثره بالآداب العربية
الأخرى؟ ثم ماذا عن سؤال الكتابة ورهان الإبداع؟ من يساعدني في اختيار الموضوع
وحصر المتن المدروس؟ وكم من الوقت يلزمني لجمع شتات هذه الأسئلة وغيرها؟
قرأت عددا
من دلائل إعداد الأطاريح الجامعية، لعلني أظفر بما يشفي غليلي؛ غير أن قلبي كان
دليلي، فاصطفيتُ مُشرفي واخترتُ موضوعي ورسمتُ أهدافي وحصرتُ متني ومصطلحاتي
ونوّعتُ مصادري ومراجعي، ثم هيّأتُ من الأدوات المنهجية ما يستجيب للضوابط
العلمية.
كان موضوع
الأطروحة يتناول بالدرس والتحليل ظاهرة المعارضة في الشعر المغربي القديم،
وما أفرزته من قضايا نقدية، كان على رأسها قضية التقليد والتجديد، وما انبثق عنها
من مظاهر التّناص في القصيدة العمودية. وكان لا بد لهذا البحث أن ينطلق من تبني
مجموعة من الأسئلة النظرية التي توجه مساراته وتحدد مجالات اشتغاله، سواء تعلق
الأمر بمفهوم المعارضة أو بالمنجز الشعري، قبل وزمن السعديين، أو بدراسة التعالق
الفني بين النصوص المغربية وغيرها.
أما منهج
الدراسة، فقد جمعت فيه بين خارجية النص كبنية منفتحة، وبين النص، كبنية مغلقة. وقد
ارتأيت، كي لا أتوه في الكثرة، أن أحصر دائرة الاشتغال، في مجموعة القصائد التي
توافرت فيها، شروط "المعارضة الشعرية"، جعلتها متنا قارا لممارسة النقد
والتحليل، على مستوى اللغة والتركيب والدلالة.
امتدت رحلتي
مع هذا البحث لأكثر من خمس سنوات، من العمل الشاق المضني والتعب اللذيذ، انتهت
بحصولي على شهادة الدكتوراه. وقد حدث حين سجلتُ موضوع أطروحتي أن جعلتُـني في
البداية، مُصاحبا لنفسي. فكنتُ الباحثَ والقارئَ في آن، ثم اتخذتُ بعدها المشورةَ
عـوْنا لي من أهل الاختصاص وأصحابِ الخبْرة في المجال. وما خاب من استشار، كما
يقال.
كنت أسجلُ
ملحوظاتي على ورقٍ وأصنّـفُها بحسب الفكرة وموقعها من الموضوع. وكنت كلما حرّرتُ
مبحثا أو فصلا عرضتُـه على المشرف للتداول، وناقشْتُه مع من وثِقْتُ بهِ من
الأساتذة الأصدقاء، دون أن أتوقف لحْظةً عن قراءة ما تيسر لي العثور عليه، خلال
عملية البحث والتنقيب والجمع والتوثيق. وبين هذا المنزع أو ذاك، كنت شديد الحرص
على تجويد اللغة بضبْط اللفظ وتدقيق العبارة، ضمانا لسلامة الفهم والإفهام،
بالتعبير الجرجاني.
ولم تكن
تمرُّ فترات من زمن البحث إلا وسابقَني الملَل كالظل، حيثُما حللتُ وانوجدْتُ
يُطِـلّ. وكثيرا ما شعرتُ بالوهَن والتّعب وكِـدْتُ أستسلم لليأس والفشل، لولا أن
رأيت برهان عزمي يُحرّكُـني ودعمِ الأسرة والأصدقاء يُحفّـزُني، فانتفضتُ من جديد
أقارِعُ دهشة البداية ورعشة الكتابة.
عاودتُ
الصلة بالمصادر والمراجع وواصلتُ قراءة النصوص الشعرية، وبذلتُ جُهدا في شكل
الأبياتِ والشّواهد الكثيرة، وأمعنتُ النّظر مليّا في الدلالة فوصفتُ وقارنتُ
وأضفتُ وحذفتُ ثم حللتُ وناقشتُ وفْـقَ ما سطّرتُه في ثنايا المنهج. لم أكنْ
أنصِتُ سوى لنبض النصّ أسائل صاحبه وأتقـفّى أثره في غيره أو تأثره بغيره، واضعا
نصب عيني محاولة الإجابة عن تلكُمُ الأسئلة التي طرحتها في المقدمة.
أما شواهد
البحث فقد اجتهدتُ أن يكون استدعاؤها في الوقت المناسب والموضع المناسب. وأن تكون
إحالاتي منضبطةً للقواعد المتعارف عليها، ونُـقولاتي لا تُخِـلّ بالأمانة العلمية.
كما تـفنّـنْتُ في إخراج العمل في حُـلّة جميلة تُغـري بالقراءة، بدءا بتمييز
العناوين وضبطِ الخطّ وترتيبِ الفقرات وترقيمِ الصفحات وتنظيمِ الفهارس والإحالات.
ولما أوشكـتُ على الانتهاء كنت سعيدا وأنا أتـولّى رقْـنَ العمل بنفسي. فكسَـوْتُه
من إحساسي بالفرَحِ وبالخوفِ ورهبتي من الآتي.
أثناء دفاعي
عن الأطروحة، رميت من قبل أعضاء اللجنة العلمية بحَجرات، قيل إنها حجرات كريمة،
تسائل الموضوع وتناقش منهجه وخلاصاته. ولا تُـرْمى بالحجـر إلا الشجرة المتمرة،
هكذا أشادوا. وما كان علي سوى تقبلِ هذه الملاحظات/الحجرات بصدر طلقٍ، وشوقٍ
لطَيِّ رعشةٍ سكَـنـتْـني ردْحا من الذات. ملاحظات في الصّميم أفادتني حين عزمتُ
نشر الأطروحة في كتاب.
وحين
تـنـفّسْتُ الصّعداء وبلغتُ مُـرادي بأن مُـنِحْتُ صفةَ الباحثِ ولَـقَبَ الدكتور،
عادَني ما يُشبه الأحلامَ من شغـفِ الذكرى. فكان الإصرار على مواصلة الكتابةِ بحثا
ونقدا وشعرا. فقد اعتبرتُ البحث فعلا ثقافيا والكتابةَ ضرورةً من ضرورات الحياة.
ساعـتَها فهمتُ أنّ بحث الدكتوراه وحيازة "دالها" لم يكن سِدْرَة
المنتهى؛ وإنما بدايةَ البدايات. بداية لطموحٍ جديد يجاوز اللحظة نحو اسْتِشراف
المستقبل، وبداية لترسيخ انتماءٍ ضمن عالم المهوسين بالحرفِ والزّحْـفِ نحو
الدهشة/ النشوة المشتهاة. دهشة البحث عن موقع قدم في خريطة الفكر والأدب. ونشوة
الحضور وهزم التعب.
أصبح
اشتغالي ضمن مشروع علمي مزدوج، أحدهما ينتصر للتأطير التربوي والبحث البيداغوجي،
من ثمراته مقالات في الديداكتيك وسلوك المتعلم بالفصل الدراسي. والآخر ينتصر للأدب
المغربي ويراهن على محو البياضات التي تعتري مساراته. ومن ثمراته تأليف كتب نقدية
في تحليل الخطاب منها: "قبعة الساحر قراءات في القصة القصيرة بالمغرب"
و"مديح الصدى دراسات في أدب الغرب الإسلامي" و"الانحياز إلى
القصيدة قراءة في المتن الشعري الحديث بالمغرب" وفي القادم من الأيام كتاب
"الغابة اللامرئية قراءات في القصة القصيرة العربية". إضافة إلى مقالات
ودراسات متفرقة هنا وهناك، في الرواية وأدب الصحراء وفي الموروث الشعبي.
هكذا، صار
البحث والنقد والشعر والتدريس والموسيقى مرافئ لذيذة، وجدتني أتنقل بينها وأرتشف
من أريجها مثل نحلة حمّالة شهد وإبداع. فـلْنُـدْمِـن البحث - معشر الطلاب-
ولـنُـدْمِـن السؤال. هما غايتان تمنعانِ الغربةَ عن الذات وتمنحانِها الاخضرار.
وصدق الشاعر التشيلي بابلو نيرودا حين صدح، ذات قصيدة:
يموت ببطء..
من لا يسافر
من لا يقرأ
من لا يسمع
الموسيقى
يموت ببطء..
من يصبح
عبدا للعادة..
يعاود كل
يوم نفس المسافات..
يموت ببطء..
من لا يغير
المكان
من لا يركب
المخاطر
لتحقيق
أحلامه.
هكذا هي
تجربتي في البحث، كما عشتُها ولا أزالُ، بحلوها ومرِّها، من دهشةِ البدايةِ إلى
بدايةِ الدهشةِ، حيث الارتواء والانتشاء. أعـيشُ اللحظةَ بما فيها من معيقات
وتناقضات، وأقاومُ بالكِتابةِ، ما استطعتُ، قـلَـقَ الذات وسؤال الوجـود، دفْـعا
للموت وانتصارا للحياة.
----------------
+/ ألقيت هذه
الشهادة خلال الدورة التكوينية الأولى التي نظمها مختبر ديداكتيك اللغات والترجمة
والثقافة لفائدة طلبة الدكتوراه، بتاريخ 11 نونبر 2016 بكلية الآداب والعلوم
الإنسانية بالقنيطرة.
إرسال تعليق