U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

تـرجـمةُ "الإلْـياذة" وإشـكاليّةُ العَـلاقـة بيْنَ الـوَزْن والـغَـرَض

 

تمثل الترجمة، بأبعادها ومواصفاتها المختلفة، إحدى الوسائل الممكنة التي تستهدف ربط جسور التواصل بين الأمم والشعوب. كما تشكل مظهرا من مظاهر اندماج الثقافات والحضارات البشرية، عبر الانفتاح على الغير، سفرا واطلاعا وحوارا. ولا شك أنه، في مثل هذا الانفتاح، ما يدفع المرء ويحفزه إلى رؤية ذاته في مرآة الآخر. فكل شعب ترتسم حدوده ومعالمه، من خلال ما راكمه من طقوس وعادات، وفي ما أنتجه من فكر وفن وأدب.

لقد كانت الترجمة، ولا تزال إلى اليوم، أحد انشغالات الإنسان، بواسطتها يسعى إلى الفهم، من خلال ربط الصلة بينه وبين العالم من حوله. والواقع، أن أغلب المصادر التاريخية ذات الصلة بعالم الترجمة "تخبرنا أن هذه الأخيرة ارتبط وجودها باللغات المكتوبة (منذ العثور على ترجمة لأجزاء من ملحمة جلجامش السومرية حلال اللفية الثانية قبل الميلاد) واعتبرت نشاطا يقضي بنقل المعارف التي اكتسبها الشخص إلى لغته الأصل"[1]

هكذا، بفعل التلاقح الثقافي والاجتماعي، ظهرت ترجمات متنوعة لعدد من الآثار العلمية والأدبية وكذا التاريخية والفلسفية، شكلت لحظة من لحظات التعارف الإنساني والحضاري. وهي آثار متنوعة الرؤى خلفت ردود أفعال متباينة، في حينها، واعتبرت إرثا محلّيا/ عالميّا يكس هوية الأمة وحضارتها.

في هذا الإطار التفاعلي، نستحضر، على سبيل التمثيل لا الحصر، أحد الأعمال الأدبية اليونانية، مجسدا في الملحمة الموسومة بـ"الإلياذة"[2] للشاعر الإغريقي هوميروس. تلك التحفة الخالدة التي اخترقت الحدود وعبرت الأزمنة. فقد تُرجم هذا الأثر، إلى لغات عالمية كثيرة، منها اللغة العربية. لعل الترجمة التي قدمها الأديب اللبناني سليمان البستاني (1856/1925م)، تعد من الترجمات الرائدة في هذا المجال. فماذا عن هذه الترجمة وما الغاية منها؟ كيف تيسّرت لصاحبها وما المعايير التي اعتمدها؟ وبالتالي هل من قضايا ورؤى أثارَها المترجم؟

عُرف سليمان البستاني، صاحب هذه الترجمة، بإتقانه للعديد من اللغات كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والتركية والعبرية والفارسية وغيرها. كما عرف بثقافته العميقة وإحاطته الواسعة بسائر العلوم وفنون الشعر والصنائع. كان شغوفا بقراءة المصادر والمراجع ذات الصلة بالموروث العربي والغربي، معا، قراءة لا تخلو من تقدير وإعجاب. وهو ما يفسر وقوع "الإلياذة" في نفسه موقعا حسنا دفعه إلى ترجمتها، بدعوة من الأديب (يعقوب صروف)، إلى العربية ونقلها إلى القارئ العربي شعرا. وقد صدرت ترجمته، في أكثر من ألف صفحة، استهلّها بديباجة، فمقدمة يمكن اعتبارها مدخلا رئيسا لاستخلاص رؤيته النقدية بخصوص فعل الترجمة. شملت المقدمة عرضا تفصيليا عن الإلياذة وتعريفا بصاحبها وموضوعها، بالإضافة إلى لمحة عن خطة الكتاب ومحتوياته. كما أثارت هذه المقدمة، التي امتدت إلى أكثر من مائة وسبعين صفحة، جملة من القضايا المنبثقة عن ترجمة الشعر وإشكالاته، ثم ذيلت بمعجم وملحق وهوامش.

يقول البستاني في ديباجة الكتاب: "هذه إلياذة هوميروس أزفُّ نظمها إلى قراء العربية شعرا عربيّا، ولقد استنفدت وسعي في نظمها وإلحامها راجيا أن تكون محكمة التعريب خليَّة من شوائب اللكنة والعجمة. وقد صدّرتها بمقدمة أتيت فيها على سيرة صاحب الإلياذة وأشرت إلى منظوماته ومنزلته عند القدماء ورأي المتأخرين فيه وأقوال العرب في شعره، وبحثت في الإلياذة وموضوعها وطرق تناقلها قبل الكتابة ثم في جمعها وكتابتها وسلامتها من التحريف مع ما فيها من قليل الدخيل والساقط والمكرر والمغلق، وأتيت على تحليلها وتشريحها، وبسط ما فيها من الفائدة للأدب والتاريخ وسائر العلوم والفنون والصنائع، وأوضحت ما كان من الأسباب الداعية في صدر الإسلام إلى إغفال العرب نقلها إلى لغتهم، وتطرقت إلى التعريب، فقصصت حكاية المعرِّب في وضع هذا الكتاب. وذكرت مناهج العرب في نقل الكتب الأعجمية والطرق التي يجدر بالنَّقلَة التعويل عليها، وساقني ذلك إلى النظر في التعريب الشعري، ثم إلى النظم على الإطلاق وأوزان الشعر وقوافيه ووقع كل منها في معانيه، وجوازات الشعر من مأنوس ومكروه إلى غير ذلك مما عُدّ من خصائص هذه الصناعة." (ص9)[3]

يستفاد من الإشارات السابقة، أن المترجِم كان على بيّنة من صعوبة العمل المترجَم وما يستلزمه الأمر من خبرة واستعداد، ومن معرفة باللغة والبلاغة وموسيقى الشعر. لذلك فقد بذل البستاني جهدا ملموسا في تعريب الأصل والمحافظة، قدر الإمكان، على ترجمة المعاني وما يستتبعه من اختيار القوافي والأوزان، في بعدها أو قربها من الأغراض الشعرية العربية. فقد كان يعود إلى الأصل، كلما قابل بين ترجمة وأخرى وتبيّن رجحان نسخة دون أخرى. (ص63) فلم يكن الهدف الأساس هو نقل النص من لغة أجنبية إلى لغة مغايرة فحسب؛ بقدر ما كان نقلا إبداعيا يستحضر الأفكار والمشاعر، ومن تمّ الرغبة في بيان القيمة الفنية للإلياذة، باعتباره نصا مُهاجرا، من جهة، وبيان القيمة الجمالية للغة العربية، حيث البُنى التعبيرية، التي تميزها عن اليونانية، من جهة ثانية. لذلك كان لزاما عليه العمل وفق استراتيجية تسعى إلى ضبط النص الأصلي وربطه بسياقات شعرية عربية، قد تماثله أو تخالفه. وعليه، كان التنبيه إلى أوجه التشابه والاختلاف بين الألفاظ والمعاني، والتنويه ببعض القواسم المشتركة بين الحضارتين (العربية واليونانية)، على مستوى الوقائع والأحداث والمواقف والسلوكيات. يقول: "فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد." (ص10)

واستنادا إلى وثائق ومعلومات تاريخية، يصرح البستاني بكون عمله يعد أول ترجمة عربية لملحمة يونانية، عرفتها حركة الترجمة في القرن التاسع عشر. وهو بهذا العمل يكون قد قدم خدمة لقراء العربية وقربهم من عالم وعوالم المجتمع اليوناني؛ بل وساهم، بصورة أو بأخرى، في خلق تواصل بين اللغتين/ اللغات ومد الجسور بين الثقافات والحضارات الإنسانية. يقول في هذا السياق: "ليس في ما بين أيدينا من التآليف العربية ما يشير إلى أن ديوان هوميروس نُقل إلى لغة العرب، فهو بلا ريب لم يعرب وإن كان معروفا عند خاصة العلماء في بغداد لعهد العباسيين إذ كان يتناشده الأدباء من نَقَلة الكتب المقربين من الخلفاء بأصله اليوناني ونقله السرياني.." (ص26)

تأسيسا على ما سبق، تعد الإلياذة من أروع الأعمال الملحمية في التاريخ اليوناني، إلى جانب ملحمة الأوديسا، خلّد اسم الشاعر الإغريقي هوميروس في التاريخ، فيما تمثل ترجمة البستاني لها سابقة، في التاريخ العربي، لم يستطع أحد قبله اختراق عوالمها الأسطورية والبطولية. والواقع أن البستاني لم يغفل الحديث عن سيرة هوميروس وما كان من اختلاف الرواة/ المترجمين بشأنها. لذلك حين يعرض لسيرته تجده، يحلل ويناقش ويخالف ويقارن، إلى أن يستخلص أنّ للمؤرخين أقوالا مختلفة في "تعيين الزمن الذي ظهر فيه شيخ الشعراء وهي تتراوح بين بدء القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد، ورواية هيرودوتس القائل إن هوميروس تقدمه بأربعمائة سنة ما زالت أجدرهن جميعا بالثقة؛ لانطباقها على منقول الثقات من قدماء المؤرخين والأثر المتصل إليهم بالتواتر."(ص20)

لم يفوّت البستاني لحظة لإظهار الإعجاب والإشادة بالشاعر الإغريقي هوميروس وبمنظومه، حيث تستوقفنا شواهد كثيرة تبرز المكانة التي كان يحتلها هذا الأخير، مثلما نجد في قوله: "ومن مأثور أقواله وهو واقف إلى قبر آخيل بطل الإلياذة: (طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك) وإنك لا تكاد تتصفح كتابًا من كتب الأدب والتاريخ مما كان يوثق به عند قدماء الغرب إلا رأيته مشحونًا بالشواهد المنقولة عن شاعرنا مشفوعة بالإطراء والإكبار." (ص22) أو قوله، في موضع آخر: "قال إسطرابون (في الكتاب الأول والفصل الثاني من جغرافيته) «إذا قيل الشاعر عُني به هومريوس». وقد لقبه في أول صفحة من الكتاب المذكور بالفيلسوف، ووضعه في مقدمة الجغرافيين، وقال في موضع آخر: «إن رائد هومريوس إنما كان الحقيقة، وأما الخيال فإنما اتخذه حلية وشّى بها شعره، فبهر بها النواظر فعلقت بها الخواطر، وهذا هو السر في شغف ناشئة اليونان كافة بمطالعة شعره»." (ص21)

بهذا الأفق التفاعلي المنفتح على الآخر الشعري، يقتحم البستاني مجال الترجمة، متسلحا بما يستحضره من معرفة بالتاريخ اليوناني والعربي معا، وما يستضمره من مكتسبات لغوية وشعرية.

أما "الإلياذة أو الإلياس نسبة يونانية إلى إليون عاصمة بلاد الطرواد" (ص30). تلك البلاد التي عرفت في مرحلة من مراحلها التاريخية، حصارا مريعا دفع هوميروس، في الأيام القلائل من السنة العاشرة له (أي الحصار) أن ينظم فيه منظومته، حيث استهلها بقوله: (ص32)

ربة الشعر عن آخيل بن فيلا    /////    أنشدينا واروي احتداما وبيلا

لقد كان موضوع الإلياذة هو "غيظ آخيل أو احتدامه." (ص30). وبالرغم من كون موضوع الإلياذة واحدا؛ فإنها (الإلياذة) تعكس جوانب اصطدام إرادة الآلهة بإرادة البشر، كما تتميز بشسوع مباحثها وتنوع أحاديثها، جعلت تناقلها بين الناس سريعا. علاوة على أن بلاغة شعرها وتناسق نظمها ورقة معانيها وانسجامها، كان من بين أسباب انتشارها وذيوعها، وترجمتها على لغة الروم والهند والفرس والسرياليين، فلغات أخرى إلا لغة العرب؛ حيث ظلت الإلياذة محجوبة عنهم، خلال هذه الفترة، يرجعها البستاني إلى ثلاثة أسباب هي: "الدين، وإغلاق فهم اليونانية على العرب، وعجز النقلة على نظم الشعر العربي."[4]غير أن اطلاع البستاني على بعض المنظومات القديمة والحديثة، لم يجده إلا إعجابا بالإلياذة يقول: "نسج صفوة الشعراء على منوالها فلم يبلغوا شأوها، واستقوا من بحرها فملئوا بحارهم، ولم ينقصوها شيئًا. فقلت: ما أحرى لغتنا العربية أن تحرر مثالا من هذه الدرة اليتيمة، فهي أولى بها ممن تناولها من ملل الحضارة."[5]

هكذا، حين أقدم البستاني، على تعريب نص الإلياذة الهوميروسية، نظر في الطبيعة المميزة للغة الضاد، قبل أن يعين أوزان منظومته للإلياذة، خاصة وأنه لا أصول سلفية يمكن الاعتماد عليها "وهيهات أن يتسنى وضع مثل هذه الأصول فيتقيد كل بحر من بحور الشعر بباب من أبوابه أو تتعين كل قافية من القوافي لمعنى من المعاني، فقد نظم العرب كل معنى على كل بحر وكل قافية وأجادوا." (ص80) ولبيان منهجه في الترجمة العربية صرح بكونه وطّن نفسه على ألا يزيد على المعنى ولا ينقص منه ولا يقدم ولا يؤخر "إلا في ما اقتضاه تركيب اللغة." (ص68)

وفي هذا الإطار، يعتبر سليمان البستاني، أول من أثار علاقة البحر بموضوعات الشعر، إثارة تستدعي الانتباه والتأمل. ولعله، باعتماده النص/الجزء، من مواقف، وآراء متباينة إزاءها في النقد العربي والغربي على قدم وساق.

يثير سليمان البستاني، من خلال ما جاء في المقدمة/ الإطار، وتحديدا في سياق حديث عن "أوزان الشعر وأبوابه" (ص81) و"رنة القافية" (ص87)، قضية قلما توسع فيها القدماء وأهل العروض، وهم ينظرون إلى أبحر الشعر، إذ لم يزيدوا على تسميتها بأسماء تنطبق توسعا على مسميات مواضيع القصائد المنظومة عليها. وهي قضية تحمل دلالة أخرى أبعد من الاسم والمسمى: هي علاقة الوزن بالغرض. فكيف عرض لها سليمان البستاني خلال حديثه عن الترجمة؟ وكيف تجلت مظاهرها في النص المترجم؟

يمكن اختزال مداخلة المترجم في ثلاث وحدات رئيسة هي:

1-   الوحدة الأولى: وتتمثل في إغفال العروضيين لعلاقة البحر بالموضوع.

2-   الوحدة الثانية: وتتلخص في تعيين البحور التي وظفها البستاني في الإلياذة وذكر مميزاتها الخاصة، وكذا البحور التي لم يتسن له النظم فيها.

3-   الوحدة الثالثة: وتختزل في إسقاط الشعراء، من ذهنهم، علاقة القافية بالمعنى.

نكتشف، بالرجوع إلى الفكرة الأولى، أن البستاني ما كان ليطرح علاقة الوزن بالغرض، لولا أن وجد نفسه في مأزق، حين اختار ترجمة رائعة هوميروس. فهذا الاختيار، دفعه إلى البحث في شعر العرب، من خلال النظر إلى ترابط بحور الشعر بمواضيعه وأبوابه؛ الأمر الذي أفاده في بعض الأناشيد، فائدة لا يستهان بها.

ومع أن أهل العروض، وهم من أوكل إليهم البحث في صحيح الشعر وفاسده، قد نظروا إلى أبحر الشعر في علاقتها بالمواضيع والأغراض؛ إلا أنهم "لم يزيدوا على تسميتها بأسماء تنطبق توسعا على مسميات مواضيع القصائد المنظومة عليها فقالوا: هذا طويل، وذاك بسيط، وذلك خفيف أو سريع وهلم جرا، ووقفوا عند هذا الحد." (ص81).  ومن هنا، كان في المسألة عندهم ناقصا غير مكتمل، مثلما كان تعريف القدماء للشعر، في ما مضى، أنه (هو الكلام المقفى الموزون) ولم يزيدوا، تعريفا ناقصا.

وإن كان البستاني ينبه إلى مدى الصعوبة التي تكتنف البحث في أصول هذه العلاقة، فذلك لشسوع المتن الشعري العربي، من جهة، ولوفرة عدد الناظمين من الشعراء في مقابل تشعب الأبواب والأغراض الشعرية التي ارتضاها الشعراء لبحورهم، من جهة ثانية. ومن تمّ، اعتبر البستاني أن الإجابة النهائية لا تتأتى إلا عبر دراسة إحصائية نصية لجل الإنتاجات الشعرية السابقة. وهو أمر متعذر مرحليا.

أما الوحدة الثانية فيستعرض الكاتب، خلالها خصوصية البحور الشعرية التي نظم عليها أناشيد الإلياذة. وألمح إلى درجة ورودها في الشعر العربي، قديمه وحديثه.

وهكذا يبتدئ بالطويل، وأجزاؤه (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)، ويصفه بكونه بحرا رحيب الصدر "يستوعب ما لا يستوعب غيره من المعاني، ويتسع للفخر والحماسة والتشابيه، والاستعارات وسرد الحوادث، وتدوين الأخبار، ووصف الأحوال" (ص81). وهو طويل لأنه "يطول بتمام أجزائه"، كما يقول ابن رشيق. بحر يمتاز بطول النفس وبقدرته على احتواء مجال أوسع للتفصيل، ويصلح لتسجيل الأخبار والأساطير، لذلك كان الشعراء الأوائل يفضلونهن لأن قصائدهم كانت أقرب إلى الشعر القصصي من كلام المولدين الذين بلغوا درجة قصوى من التصرف بالمعاني وجزالة اللفظ، درجة لم يبلغها المتقدمون.

ولعل معلقات امرئ القيس وزهير وطرفة تنم عن بعض هذه الخاصيات التي ذكرها البستاني للبحر الطويل، لأنها معلقات تضمنت موضوعات مختلفة من فخر وحماسة ووصف وحكم، مع جوانب بلاغية لا تعد.

ثم ينتقل إلى بحر البسيط، وأجزاؤه (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن)، ليسجل رقته وزجالته، وظهوره، بشكل قوي، عند المولدين وغيرهم ممن كانت لهم أقوال ساحرة في التشابيه والكنايات والاستعارات. وقد كان استشهاد البستاني بتوطئة أبي تمام الشاعر العباسي إذ يقول:

السيف أصدق إنباء من الكتب    /////    في حده الحد بين الجد واللعب

وهي توطئة، انسجمت مع الغرض، إذ أراد الشاعر مدح الخليفة العباسي على إثر فتحه عمورية.

وإذا عُدّا البحران الطويل والبسيط "أطولا بحور الشعر العربي وأعظمها أبهة وجلالة، وإليهما يعمد أصحاب الرصانة، وفيهما يفتضح أهل الركاكة والهجنة"[6]؛ فإن الكامل يعد من أتم البحور السباعية التي تتألف تفعيلتها الواحدة من سبعة أحرف (خمس حركات وساكنان) وأجزاؤه الكاملة (متفاعلن متفاعلن متفاعلن). بحر يصلح لكل نوع شعري، وقد نظم فيه المتقدمون والمتأخرون على السواء، لأنه يجود في الخبر ويقرب إلى الشدة. كما يمتاز عن غيره من البحور الشعرية، بكونه يشتمل على "ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر"[7]

ويمكن تتبع أهم خاصيات هذا الوزن، من خلال استعراضنا لمعلقتي عنترة ولبيد، حيث تبرز قدرة الكامل على احتواء العديد من المعاني والأغراض. وكذا الغوص في ثنايا الوصف والأخبار، وتمكين الشاعر من التعبير عن انفعالاته الداخلية دون كبير عناء. وعليه يكون "سر الصناعة في الكامل كله يدور على تغليب السكنات على الحروف طورا، ثم تغليب الحركات على السكنات طورا آخر، ثم الموازنة بينهما أحيانا."[8]

يتضح من سياق الكلام، عن الأوزان وعلاقتها بالمعاني والأغراض، أن سليمان البستاني يصدر عن ذائقة شعرية وفهم عميق للمكتوب. ولم تكن الترجمة لتقف حاجزا دون استثمار هذا المخزون الأدبي والنقدي. فالبستاني ظل حريصا، في ترجمته، على خدمة اللغة العربية والمضيّ بها قدما في سبيل التطوير والتجديد، لأنها لغة حية تأبى الركود والجمود. بهذا المعنى، تصير الترجمة شكلا من أشكال الحوار الثقافي بين لغتين أو ثقافتين؛ وأيضا محطة من محطات اكتشاف الذات والعالم من حولها.

أما ما يستنتجه البستاني، بصدد الوافر، فيظهر في كون هذا الوزن يجود في الفخر، من خلال بروز جانب الخطابة فيه، كما في معلقة عمرو بن كلثوم. كما يجود، وبشكل كبير جدا، في شعر المراثي، حيث الخنساء بلغت فيه شأوا عظيما. يمتاز هذا البحر بسرعة نغماته وتلاحقها. وأجزاؤه (مفاعلتن مفاعلتن فعولن) كما عد من ألين البحور لطواعيته واستجابته لانفعالات الشاعر. أما الخفيف وأجزاؤه (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) فهو أخف البحور على الطبع وأطلاها للسمع، يشبه الوافر لينا ولكنه أكثر سهولة واقرب انسجاما.. وليس في جميع بحور الشعر بحر نظيره يصح للتصرف بجميع المعاني" (ص83)، كما هو الحال في معلقة الحارث بن حلزة اليشكري.

في حين أن الرمل، بحسب البستاني دائما، وأجزاؤه (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن) فقد برز بكيفية مثيرة عند الأندلسيين الذين "لعبوا به كل ملعب وأخرجوا منه ضروب الموشحات وهو غير كثير في الشعر الجاهلي" (ص84). والموشحات من محاسن الاستنباط الشعري إذ نظمت على طرق كثيرة. فخالف أوزان الشعر المشهورة. ومن أهم الأغراض التي يجود نظمها عليه، تتمثل في الأحزان والأفراح والتغني بالطبيعة.

وبخصوص البحرين: السريع وأجزاؤه (مستفعلن مستفعلن مفعولات) والمتقارب وأجزاؤه (فعولن فعولن فعولن فعولن) فهما بحران، إن قل النظم عليهما في الشعر الجاهلي، فقد وظفهما الشعراء المتأخرون كالخنساء وغيرها.

وإذا كان البحر الأول يسرع على اللسان، كما يرى ابن رشيق، ويمتاز بالرقة ويصلح لتمثيل المشاعر؛ فإن الثاني "لتقارب أجزائه" فيميل إلى العنف والشدة.

وعن البحر الذي استدركه الأخفش، على عمل الخليل، وهو الخبب وأجزاؤه (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) فلم يتبين البستاني مكانته في الشعر العربي، قديمه وحديثه، لقلة استعماله من لدن الشعراء، ولكونه بحرا "لا يليق إلا لنكتة أو نغمة" (ص84)، حدّ تعبيره.

أما بحر الرجز وأجزاؤه (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) فقد حظي باهتمام علماء النحو والفقه والمنطق والطب، إذ نظموا عليه متونهم العلمية لسهولة نظمه. ولعل كثرة استعماله، هو ما جعل الكثير من النقاد، يسمونه حمار الشعراء؛ في الوقت الذي ارتأى البستاني لوْ سموه (عالِم الشعر).

هكذا يقيم سليمان البستاني لمسألة العلاقة بين الوزن والغرض أهمية بالغة، إذ في ضوئها سيحدد كيفية بناء نظام تعريبي، يراعي خصوصية اللغة العربية والسياق الثقافي لملحمة هوميروس، متوسلا بالبحور الشعرية السالفة الذكر في إنجاز الترجمة. يقول: "فقد ترى النشيد كله بحرا واحدا، وقصيدة واحدة، وقد تتعدد فيه الأبحر والقصائد على مقتضى ما تراءى لي من سياق الكلام." (ص85) الأمر الذي يعنى أن اختلاف أوزان البحور إنما يعكس بصورة أو بأخرى، الأغراض المختلفة التي دعت إلى ذلك؛ وإلا كان الشاعر قد اكتفى بإيقاع شعري واحد ووحيد. ويمكن أن نتلمس ذلك، بالعودة إلى النص المترجم ذاته. ففي النشيد الأول مثلا: (ص189-216) ثمة توظيف لبحور هي: الخفيف، والبسيط والوافر. وفي النشيد الثاني (ص244-274) ثمة استحضار للطويل والوافر والكامل والمتقارب والبسيط. مع ما يقتضيه المعنى من تغيير في القوافي، التي تنوعت وتعددت.

لعل في إثارة البستاني لقضية الوزن، في عملية الترجمة، إشارة إلى تلكم التفسيرات التي وقفت عند عمق الحركة الإيقاعية النفسية متجاوزة آثارها العروضية. فالقدماء، باعتبارهم متلقين للشعر، أحسوا بالوزن، من خلال إنشاد الشعراء لقصائدهم، بعيدا عن التجربة العروضية. فتمثلت لديهم الموسيقى الشعرية صورة واحدة تفاعلوا مع أصواتها المنظومة، ذات النغم المتميز. فقبل القرن السابع للهجرة، نجد أن بعض النقاد القدامى لم يكلفوا أنفسهم تعب البحث عن علاقة الشاعر بالوزن وبما يعبر عنه. كما أنهم لم يتناولوا صلة البحر بالغرض في كتاباتهم النقدية، وإن اهتموا بالدور الفعال الذي يلعبه الوزن في تأسيس النص الشعري. ولعل ما يثبت ذلك أن الوزن وجد قبل تقعيد الخليل بن أحمد الفراهيدي.

ولم يقف البستاني عند هذا الحد؛ وإنما أثار، في الوحدة الثالثة، قضية أخرى لها علاقة حميمة بالموضوع الرئيس، تتمثل في موضوع القافية. وإن كانت القافية ليست من لوازم الشعر في كل اللغات فإن العربية "لا يصلح شعرها بدون قافية؛ لأنها لغة قياسية رنانة يجب أن يراعى فيها القياس والرنة، وفيها من القوافي المتناسبة ما يتعذر وجود نظيره في سائر اللغات." (ص86)

من هذه الزاوية، تبين للبستاني أن الشعراء نوعوا في قوافيهم، ولم يلزموا قافية بغرض من الأغراض، مثلما لم يلزموا الوزن لمعنى من المعاني. ومع أنه حاول استقراء بعض القوافي وربطها، بسياق كلاميّ معين، كأن يقول إن القاف يجود في الشدة والحرب والدال في الفخر والحماسة مثلا، فإن البستاني لم يصدر هذا القول على منتهى الإطلاق؛ وإنما اعتبره من باب التغليب ليس إلا. فالوزن والقافية يظلان مرتبطين بالموسيقى، ويمثلان شكلا من أشكال الإيقاع الشعري.

ومن هنا فالقافية "ليست بكلمة كسائر كلمات البيت، وإنما هي رمز يشير على طبيعة نغمه ورنته، ورنة سائر القصيدة ووزنها"[9]. ويذكر، في هذا السياق العلائقي بين الوزن والقافية، أن أبا هلال العسكري أكد ضرورة طلب الوزن الذي ينسجم مع المعنى واختيار القافية التي يحتملها هذا المعنى، إذ "من المعاني ما تمكن من نظمه في قافية، ولا تمكن منه في أخرى، أو تكون في هذه أقرب طريقا وأيسر كلفة منه في تلك. ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجيء سهلا ذا طلاوة ورونق، خير من أن يعلوك فيجيء كرا فجا ومتجعدا جلفا."[10] لذلك كان البستاني حريصا على إيلاء هذا الموضوع أهمية قصوى تبرز رحابة اللغة العربية وإمكاناتها المتعددة.

لقد تنوعت البحور التي وظفها البستاني، في هذه الترجمة، مثلما تنوعت قوافيها، استنادا إلى رؤية شعرية تنتصر، في نهاية المطاف، للبعدين الجمالي والدلالي خلال نظم الأربعة والعشرين نشيدا.

إن شغف البستاني بإلياذة هوميروس عائد، كما ألمح في مواضع متعددة، إلى ذيوع شهرتها ووضوح لغتها وقرب معانيها من العامة من الناس. ومن هنا كان الميل إلى إشراك القارئ العربي في هذا الملحمة الكبرى قصد الانتفاع والاستمتاع. ولم تكن الترجمة، بهذا المعنى أو ذاك، سوى تجسيد لبعد حضاري يروم ترسيخ ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر/ الشعري.  

ختاما، لقد فتح سليمان البستاني، بهذه الترجمة البديعة، بابا في غاية الأهمية ما برح النقاد، القدامى منهم والمحدثون، يشتغلون به وعليه، ائتلافا واختلافا، يتصل بقضية مركزية هي: الوزن والغرض، على غرار قضية الطبع والصّنعة أو اللفظ والمعنى في النقد القديم. وقد أفاض القول، في ذلك، بغية تقديم رؤية خاصة ترى في ترجمة الشعر منفذا للحوار الثقافي ومدخلا للتعارف الحضاري.

..............................................

الـمـراجع

- أبو الحسن بن رشيق. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق محيي الدين عبد الحميد. دار الرشاد الحديثة. الدار البيضاء. 1934

- أبو هلال العسكري. الصناعتين. تحقيق. محمد البجاوي. المكتبة العصرية. بيروت 1986

- أحمد زنيبر. قصة الترجمة ترجمة القصة. مجلة العربي. العدد 745. السنة 2020.

- عبد السلام بنعبد العالي. في الترجمة. سلسلة شراع. العدد 40 السنة 1998

- عبد الله الطيب. المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. دار الفكر. بيروت. 1980

- هوميروس. الإلياذة. ترجمة سليمان البستاني. كلمات عربية للترجمة والنشر. القاهرة. 2011

 إحالة: دراسة منشورة بمجلة المشكاة. العددان 58-59. السنة 2022. وجدة. المغرب


[1] - أحمد زنيبر. قصة الترجمة ترجمة القصة. مجلة العربي. الكويت. العدد 745. السنة 2020. ص28

[2] - هوميروس. الإلياذة. ترجمة سليمان البستاني. كلمات عربية للترجمة والنشر. القاهرة. 2011

[3] - يحيل المحتوى الموضوع بين مزدوجتين إلى أرقام الصفحات الموجودة بكتاب: (الإلياذة).

[4] - انظر مجمل القصة التي أوردها سليمان البستاني في هذه المقدمة. ص57

[5] - المرجع نفسه. ص61

[6] - عبد الله الطيب. المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. دار الفكر بيروت. 1980. ص362

[7] - المرجع نفسه. ص362

[8] - المرجع نفسه. ص260

[9] - المرجع نفسه. ص494

[10]- أبو هلال العسكري. الصناعتين. تحقيق. محمد البجاوي. المكتبة العصرية. بيروت 1986ص139


تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق