U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

تجليات الواقع في قصص أنطون تشيخوف

 مجموعة (موت الموظف) نموذجا

يعد الكاتب الروسي أنطون تشيكوف من ألمع الأسماء التي ارتادت عالم القصة القصيرة، وأسهمت بشكل كبير في إرساء دعائم هذا الجنس الأدبي من خلال توظيفه لأهم الشروط الفنية التي تكسب العمل الإبداعي أبعادا جمالية ورمزية متعددة.

بظهور مجموعة (موت الموظف) [1] مترجمة إلى العربية، نكون قاب قوسين أو أدنى من عالم تشيكوف الحكائي لغة وتشكيلا ودلالة... وهي مجموعة اختيرت نصوصها بعناية تنم عن إحساس جمالي بتلك النصوص وما تحمله من شحنة فنية تجعل من المجموعة ككل صورة من صور النموذج الأدبي.

ولعل أول ما يميز هذه المجموعة المختارة تعدد أشكالها القصصية، إذ ثمة قدره هائلة على تبني مختلف الأنماط السردية (أقصوصة، قصة قصيرة، قصة طويلة...) من جهة، وغنى الحكاية فيها من جهة ثانية.

فماذا تحكي هذه المجموعة ؟ وما القضايا التي تعالجها ؟ وهل ثمة ثابت قصصي يتحكم  في نصوصها؟

* / الفـضاء الـنصي للـمجـمـوعـة : تحتل المجموعة فضاء نصيا يقارب الثمانين صفحة من الحجم الصغير، وتشمل اثنتي عشر قصة، تختلف مواضيعها وقضاياها كما تختلف طرائق سردها، مع نص تقديمي يمكن تصنيفه مبدئيا ضمن الخطابات المقدماتية. وهو تقديم يهدف صاحبه إلى إعطاء صورة ماكروسكوبية للمجموعة، مادة ومحتوى، كما يعرض لبعض العوامل الذاتية والمعرفية والجمالية التي كانت وراء اختيار الكاتب وترجمته لنصوص بعينها، مبديا بعض الملاحظات النقدية بشأن هذه الترجمة حيث يراها "تقترب من النص الأصلي الروسي وتحتفظ بطاقته الأدبية والجمالية في النص العربي...لأن المترجم لم يكن همه هو تعريب النص الروسي على حساب جمالية النص الأصلي بل حاول الاحتفاظ بقدر من تلك الجمالية في النص العربي حينما يقدم لنا ترجمة تتوفر على طاقات انزياحية هامة تستدعي  تحريك الموسوعة الأدبية العربية عند القارئ"[2]

* / المـتـن الـحكـائـي للـمجـمـوعـة : تحبل المجموعة بكثير من الأحداث والمشاهد التي تتصل فيما بينها اتصالا جوهريا يخدم المتن الحكائي. والملاحظ أن مجموع الوقائع التي تخبرنا بها نصوص المجموعة تتسم بالواقعية من حيث إثارتها لمختلف القضايا الاجتماعية التي تحكمت في عصر تشيكوف، غير أن ذلك لم يكن يعني التصوير الفوتوغرافي الساذج لهذا الواقع؛ وإنما بقصد إعادة صياغته من جديد من خلال تحديد موقف منه ومحاكمته أحيانا من خلال أفراده. فهل نجح تشيكوف قصصيا في طرح قضايا مجتمعه وتشكيل فضاءاتها فنيا؟

يبدو أن مجموع الأحداث الواردة ضمن نصوص المجموعة تخضع لمبدأ التعاقبsuccession  الذي يطبع نماذج القصة القصيرة الكلاسيكية، إذ نرى الحدث يسير وفق الأقانيم الثلاثة: بداية/ عقدة/ انفراج. فالحدث ينمو شيئا فشيئا ثم يتلاشى تدريجيا عند النهاية.

وإذا كان الكاتب، يشير إلى نفسه، من خلال ضمير المتكلم (أنا)، كسارد ومنتج للمحكي في أول نص قصصي داخل المجموعة، فإنه سرعان ما يختفي عبر ضمير الغائب (هو) ويغدو متباينا حكائياhétérodiégétique   حيث يحضر كسارد بالدرجة الأولى في ما تبقى من النصوص القصصية. لكنه رغم التأطير السردي الذي وضعه الكاتب لنفسه، فإنه، كان من حين لآخر، ينفلت من سارده ليظهر داخل النص، كمعلق أو موضح، فنكون أمام ضمير الغائب وسارد متماثل حكائيا homodiégétique في نفس الوقت.

+) بـنـيـة الأحــداث : يقترن الحدث/ الموضوعة théme في هذه المجموعة بمفهوم الحافز بأنواعه المتعددة، إذ عندما ينشأ حدث ما يتولد عنه حافز من هذه الحوافز ليحدث في الحبكة القصصية تبدلات وتقلبات péripéties من شأنها إيقاف حركة المتن الحكائي أو تجديد إيقاعه. وعلى رأس هذه الحوافز، في هذا السياق، الحوافز الديناميكية التي تعنى بوصف أفعال وحركات شخوص ذلك الحدث.

 1 – موضوعة العطس: في قصة(موت الموظف) وهي القصة التي تسم المجموعة بعنوانها، يقدم تشيكوف حدثا بسيطا، هو حدث (العطس) "فجأة تقطب وجهه وانقبضت عيناه وتوقف نفسه...فنزع عن عينيه "البينكول" وانحنى ثم ...أتشيه!!  عطش...لم يشعر"تشرفياكوف" بأدنى ارتباك...التفت حوله، لكنه في هذه اللحظة بالذات ارتبك. لقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول... إنه السيد "بريجالوف" الجنرال الذي يعمل بمصلحة المواصلات" ص12.

وبهذا الحدث يتولد عند (البطل) حافز الاعتذار للجنرال، وهكذا تتولى اعتذارات الموظف: "اسمح لي..." _ "أتوسل إليك..." _ "والله لم أكن أقصد...". تقابلها على التوالي إجابات الجنرال، الذي لم يبد اهتماما بالحدث: "لا بأس..." _ "أوف، دعني أنصت..." _ "كفى...". ومن خلال إلحاح الموظف على تقديم الاعتذار وتنويع صيغه، يتضح أن الحدث البسيط سيأخذ حجما أكبر من حجمه الطبيعي، فرغم عودة الموظف/البطل إلى البيت يظل هاجس الخوف من أن يفهم من عطسته سلوكا لا أخلاقيا. وإحساسا منه بالندم مما حصل يفكر مجددا في الاعتذار للجنرال ! هذا الأخير، الذي اندهش وشك في سلوك الموظف "لعلك تمزح أيها السيد" ص.14؛ إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للموظف الذي، ذهب فيما بعد إلى الجنرال، يحاول مرة أخرى تبرير(خطئه): "حينما جئتك بالأمس يا سيدي لم يخطر ببالي أن أمزح كما قلت بل أحاول أن أقدم لك اعتذاري عما حصل لما عطشت..." ص.14. وهنا يشتد غضب الجنرال ويصرخ في وجه الموظف "اخرج من هنا! برا" ص.15. ولعل الفزع والرعب اللذين شعر بهما "تشرفياكوف" وقت ذاك، كانا كفيلين ليقوداه نحو أجله: "وصل إلى بيته دون أن يعلم كيف وصل...وبدون أن ينزع المعطف امتد على السرير... ومات".ص.15.

 وواضح من هذه الحكاية المثيرة. أن تشيكوف يضع الأصبع على أولى المظاهر السلبية والمرضية، التي تتمثل في شبح الخوف الذي يمتلك الإنسان الروسي البسيط من ذوي السلطة الإدارية تملكا يفضي به في النهاية نحو براتين الضعف والخذلان.

 2 _ موضوعة العض: أما النموذج الثاني فهو حدث "العض" الذي يقدمه تشيكوف عبر أبطاله الرسمين تقديما لا يخلو من سخرية. فها هو ضابط الشرطة المكلف بحفظ النظام في المدينة يسمع صياحا ويرى كلبا يهرب على ثلاثة أرجل...وحين يستفسر الشرطي عن سبب تجمع الحشد الكبير من الناس، يتبين أن "صاحب هذه الفصيحة كلب صغير أبيض اللون من فصيلة السوقيات.." ص18. آنذاك يصيح المتضرر الأول "خريوكين": "يا سعادة الشرطي كنت أمشي لا أتكلم مع أحد ولا أمس أحدا، وبدون مبرر ارتمى علي هذا الكلب وعض أصبعي!" ص.18. ولما كان "خريوكين"عاملا فإنه طالب بتعويض يؤدى له عن الضرر مادام لن يشتغل لمدة أسبوع بسبب أصبعه الدامي.

وعن هذا الحدث سيتولد عند البطل/الشرطي حافز البحث عن صاحب الكلب الحقيقي ليلقنه كيف يجب احترام القانون. وعليه يأمر مساعده بإجراء التحريات، إلا أن هذه الحماسة في تطبيق القانون سرعان ما تقلصت بمجرد ما علم أن الكلب ملك الجنيرال. فبدا انحيازه واضحا لهذا الأخير: "كيف تمكن هذا الكلب أن يعضك... إنه صغير... وأنت قوي وطويل...إن الناس يعرفونك أيها الشيطان! وأنا كذالك أعرفك! " ص.19.                                                             

لكن هذا الحكم الانحيازي لصالح الجنرال سرعان ما سينقلب لصالح "خريوكين" عندما صرخ هذا الأخير بأنه يريد الامتثال أمام القاضي وبأن أخاه دركي: "...الجنرال يملك كلابا ثمينة، ظريفة، وهذا...يعلم الله ما هو...وهل يمكن للإنسان أن يربي مثل هذه الكلاب؟...سوف يقتل في الحين... لقد قاسيت يا "خريوكين"...علينا أن نلقن أصحاب مثل هذه الحيوانات درسا. لقد حان الوقت للقيام بهذا...".ص.19.

وهكذا يواصل الشرطي رغبته في التأكد من هوية الكلب. وعندما يشكك في ملكية الجنرال لهذا الكلب، الذي "توجب قتله لأنه شريد وقبيح وربما مسعور أيضا"، يظهر طاهي الجنرال يعلن أن الكلب لأخ الجنرال المغرم بالصيد، وعليه يصبح الكلب "لطيفا ونفيسا وشاطرا ويجب بعثه إلى أصحابه". ولعل (اضطراب) الحكم، هنا، إنما هو اضطراب نفسي عميق يفسره هاجس الخوف الذي استبد بالشرطي من ذوي السلطة العسكرية. وهكذا ضاع منه الإنصاف مادام شخصية مهزوزة ومستضعفة.

3_ موضوعة الحلاقة: رغم بعد المسافة الفاصلة بين محل سكناه وصالون الحلاقة يتحمل "إراسط" مشاق الطريق لأنه عند "كوزمين" سيحلق شعره أحسن وبالمجان. وفعلا يبدأ "كوزمين" في قص شعر "إراسط". لكنه أثناء المحادثة بينها يعلم "كوزمين" أن ابنة "إراسط" قد خطبت فيصفر وجهه ويبدي اكتئابه وكأنه لم يصدق الخبر/الحدث: " ماذا تقول؟ كيف أمكن هذا يا "إرلسط إفناتش" إن هذا مستحيل لأن "آنا"...لأنني... كنت أكن لها حبا...كنت أنوي خطوبتها...ما معنى هذا ؟"ص.28.ولم يستطع "كوزمين" إتمام حلاقة شعر "إراسط" الذي انصرف ليرجع في الصباح. وعليه فحدث "الخطوبة" سيولد عند الحلاق حافز رد الاعتبار مادام قد طعن في حساسيته وجرحت كرامته: "وهل يمكنك أن تكون خطيبا؟ لا مال عندك ولا رتبة اجتماعية وحرفتك الحلاقة لا قيمة لها...".ص.28.

رد الاعتبار هذا، سيبرز عندما يعود "إراسط" صباحا لإتمام حلاقة الجهة الأخرى من رأسه فيطلب منه "كوزمين " ببرودة ثمن الحلاقة: "هات النقود مسبقا، أنا لا أحلق مجانا".ص.29. وإذا كان هذا الأخير قد رد اعتباره واسترجع كبرياءه، فإن "إراسط"، على عكس ذلك، قبل أن يبقى برأسه مشوهة ويحضر بها حفلة زفاف ابنته اعتقادا منه أنه: "من باب البذخ أن يدفع الإنسان نقودا مقابل حلق شعره" ص.29. ولعل في هذا الموقف ما يثير الغرابة والسخرية معا. ولعلها ظاهرة اجتماعية مرضية أخرى عمد تشيكوف إلى أثارها من خلال هذا الحدث. 

+) بـنـيـة الـمشــاهــد : تزخر المجموعة بكثير من المشاهد القصصية التي تشكل، من بين إيقاعات أخرى، القاع السردي الأساسي عند تشيكوف. فالمشاهد تتمطط وتتخذ أشكالا وصورا متباينة، خلالها تتوالى الأحداث بكل تفاصيلها وأبعادها..

ولما كانت الأحداث في المشهد أساسية في مسار القصة/ الحكاية، فإن ذلك لم يغب عن ذهن ووعي تشيكوف القصصيين. فثمة حكايا مشهدية وفيرة تقوم تارة على المفارقة paradoxe وتارة أخرى على السخرية l’ironie  .         

والملاحظ أن أغلب هذه المشاهد تقوم على تحريك الحدث بشكل مسرحي، اعتمادا على تقنية الحوار dialogue. كما أن الشخصيات القصصية تظهر أكثر ميولا إلى حكاية قصتها بشكل مباشر، في حين أن السارد/الكاتب لا يظهر إلا كمنظم أومنسق لهذا المقول  disible.

ولنجتزئ بعضا من هذه المشاهد الحوارية، قصد التمثيل لذلك:

 1 _ مشهد المحاسبة: في قصة (فتور) يقوم البطل بتجريب دور الطاغية مع أحد عملائه، قصد اختبار رد فعل هذا الأخير. وهكذا يستدعي البطل إلى مكتبه المربية "يوليا فاسيليفنا" ويحاسبها بخصوص الدروس التي أداتها لأبنائه: "...سبق لنا أن اتفقنا على أن أؤدي لك ثلاثين روبلا عن كل شهر...

_ أربعين.

- لا، ثلاثين، لقد سجلت هذا عندي... وإنني كنت دائما أؤدي للمربيات ثلاثين روبلا...قضيت هنا شهرين.

_ شهرين وخمسة أيام...

_ لا، شهرين تماما لا أقل ولا أكثر... إن هذا مسجل عندي كذلك...".ص.9.

ورغبة في المحاسبة الدقيقة يعمد البطل إلى خصم أيام الآحاد والأعياد والمرض وعدم الانتباه والدين...من مجموع راتبها الأساسي الذي تقلص بعد عملية الخصم هاته إلى 11 روبلا: "... تفضلي يا عزيزتي، خذي نقودك! 3و3و3و1و1...".ص.11.

وأثناء مشهد المحاسبة يفاجأ البطل بفتور المربية. إذ رغم الابتزاز الواضح الذي تعمده لم تبد أي احتجاج أو معارضة، بل أكثر من هذا أخذت النقود وهمست له بالشكر؛ الأمر الذي أغاظه وأثار استغرابه: "ولكنني لا أفهم لم لا تحتجين؟ لماذا هذا الصمت؟ وهل يمكن للإنسان في عصرنا هذا أن يدافع بضراوة عن حقوقه؟ وأن يصل إلى مثل هذا الفتور؟" ص.11.                                                   

وعندما يتبين سبب فتورها، يكتشف أنه من السهل القيام بدور الطاغية الجائر في هذه الدنيا ولذلك يسلمها نقودها كاملة في النهاية ويعتذر لها عن قساوة الدرس الذي لقنها؟

وبمشهد المحاسبة هذا، يكون تشيكوف قد قدم صورة، ولو مصغرة، عن وضعية المرأة الروسية في خضم المتاعب اليومية التي تواجهها مقابل لقمة العيش، وكذا الممارسات القهرية التي كانت تمارس عليها من لدن أصحاب الحظوة والامتيازات (الرجل/السلطة). ولذلك قدمها امرأة ضعيفة لا تملك صوتا، أو بعبارة أخرى، فقدت صوتها/احتجاجها حتى وصلت حالة الفتور تلك.

 2 _ مشهد المماطلة: في قصة (الوثيقة) نعثر على مشهد جديد، هو مشهد المماطلة. فحين يرغب أحد الملاكين في الحصول على نسخة لأحد المحاضر التي تهم قضيته، يتوجه مباشرة إلى الموظف الإداري المسؤول، هذا الأخير الذي يبدو من خلال حركاته منشغلا وغارقا في المشاكل. ورغم استفسارات المواطن عن طلبه لم يبد ذلك الموظف أدنى اهتمام به وكأنه لم يلاحظ وجوده حين "اشتعل بالذبابة التي أمسكها ونظر إليها باهتمام بالغ ثم رمى بها على الأرض..."ص.32.

وهكذا يواصل الموظف الإداري مماطلته وتظاهره بعدم رؤيته أو سماعه المواطن الذي أخرج في النهاية "من جيبه روبلا ووضعه على الكتاب المفتوح أمام لموظف" ص.33، عساه يهتم بأمره، بل يضيف له روبلا آخر، إلا أن الأمر لم يتغير أبدا إذ عاد الموظف من جديد إلى تجاهله ولامبالاته. ولما بدا اليأس على وجه المواطن اقترب منه البواب وسأله:

   _ "ما الجديد؟ هل أخذت الوثيقة؟

   _ حاولت، ولكن الموظف لا يريد التحدث معي.

   _ أعطه ثلاثة روبلات.

   _ لقد أعطيته اثنين.

   - زده" .ص.33.

   ولعل المواطن لم يصدق نفسه، إذ بمجرد زيادته للروبل الثالثة، حتى بدأ الموظف يشتغل بسرعة وحماسة وهيأ الوثيقة وأظهر استعداده للقيام بأي عمل يعرض عليه في كل لحظة، دون أن تغادر الابتسامة محياه...

وعليه، يكون مشهد المماطلة إحالة جديدة وواضحة على ظاهرة اجتماعية تتمظهر في بعض الممارسات الدنيئة التي تمارسها فئة تستغل الوظيفة الإدارية لصالحها عن طريق استفزاز المواطن وتجاهله؛ الأمر الذي يجعل هذا الأخير لا يجد حلا لهذا القهر الإداري إلا بالاستكانة والخضوع والاستسلام. وبالتالي قبوله مرغما على التعامل بالرشوة مقابل حصوله على أبسط حقوقه.

3 _ مشهد الحيرة: أما النموذج الثالث فنستقيه من قصة(هل يسكت المرء أو يتكلم؟) والتي تنهض على مفارقة سيكولوجية بين بطلين اثنين التقيا خلال السفر. فحين لم يفلح أحدهما، وكان "فصيح اللسان كثير الكلام وذا قدرات ذهنية عالية"، في كسب عطف فتاة كانت معهما داخل عربة القطار، استفسر ه الثاني، وكان "صموتا قليل الكلام" عن كيفية معالجته الأمر وعلامات الغيرة تفضحه:

_ "كيف تستطيع يا أخي أن تعالج الأمور بذكاء ولباقة؟ إنك والله لماهر. ما كدت تجلس بجانبها حتى كان كل شيء على ما يرام... محظوظ أنت يا أخي.

- وأنت ماذا فعلت؟ فغرت فاك فيها وجلست ثلاث ساعات معها ولم تفه ولو بكلمة واحدة، كنت صامتا كالجماد... عليك أن تتحدث مع الناس وأن تكون كلماتك كالسهام... لماذا لا تفلح في أي شيء؟ لأنك ضعيف الإرادة والكلمة."ص.77.

ولما استحسن الخجول حجج صديقه قرر التغلب على وجله وحشمته... ثم أخذ يتحدث إلى رجل _ وكان كثير الكلام _ ويجيبه على جميع الأسئلة التي كان يوجهها إليه، وهو في حالة ابتهاج وحماس ملحوظين.

وإذا كان "كريوكير" في إحدى المحطات، خرج من العربة بصحبة الفتاة ثم عاد بعد قليل إلى مكانه، فإن "سميرنوف" تبع الرجل صاحب البذلة الزرقاء واختفى، ولم يعلم أحد إلى أين ذهب...

 بعد مرور سنتين، يلتقي "كريوكير" "سميرنوف" الذي بدا عليه اصفرار اللون ونحولة الجسم، يستفسره عن سبب غيبته:

_ "أين كنت طيلة هذه المدة؟

ابتسم"سميرنوف" ابتسامة مرة، وحكى له كل ما قاساه، فقال "كريوكير":

لا تكن غبيا يا أخي ولا تتكلم أكثر من اللازم واحفظ لسانك، هذا ما يجب عليك أن تفعله.".ص.78.

وبانتهاء مشهد القطار هذا، يتبين أن هناك إشارة مبطنة على مسألة جوهرية لها قيمتها الإنسانية والرمزية أيضا. هي موضوعة الحرية. فما تعرض إليه البطل "سميرنوف" من قمع وعنف، حين عبر عن أفكاره بحرية، وأبدى موافقه العلمية كمثقف إزاء مختلف المواضيع (الفكرية والاجتماعية والسياسية) يفضح بشكل أو بآخر ذلك الرعب السياسي الذي يطيح بكل من سمحت له نفسه معاكسة التيار. ولذلك يغدو المثقف الروسي سياسيا، من خلال المشهد، مسلوب الإدارة والحرية معا.

* / خـــاتــمـــة : إجمالا، وبناء على ما تقدم من نماذج سواء بخصوص الأحداث أو المشاهد، يمكن القول إن مجموعة "موت الموظف" تطفح بكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية حاول تشكوف رصدها قصصيا على أساس المفارقة بين طبقتين متباينتين: طبقة ميسورة وأخرى معسورة. وعليه تتحدد الإشكالات العامة المطروحة، التي تتخلص مبدئيا في كل مظاهر القهر والخوف والحرمان والاستغلال، من خلال الصراع القائم بينهما، وإن اتخذ هو الآخر أشكالا مختلفة.

والملاحظ أن جل المواضيع التي يقدمها تشكوف، من خلال قصصه القصيرة، وإن اختلف إيقاع الحكي فيها، تندرج تحت موضوعة قصصية مركزية تتمثل في هاجس الخوف الذي يسكن أغلب أبطال المجموعة، خاصة وأنهم ينتمون جميعهم إلى الطبقة البسيطة المقهورة. من ثمة، يبدو موقف "تولستوي" موقفا مبررا، حين قال إن الأبطال التشيكوفية ليست إيجابية ولا ثورية. إنها بعبارة أبطال تعاني نفسيا من عقدتي النقص والخضوع.

...........................................................

*/ نشرت الدراسة بمجلة قاف صاد العدد 11 السنة 2012. منشورات البحث في القصة بالمغرب. الدار البيضاء (ص.ص 53-62)



[1] -  أنطون تشيخوف. موت الموظف وقصص أخرى. ترجمة عبد الرحيم العطاوي. الكلام للنشر والتوزيع. الرباط.  

[2] - انظر التقديم الذي خصه أبو حسن لهذه المجموعة المترجمة ص: 5-7 


تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. قراءة كاشفة أستاذي مع كامل التوفيق

    ردحذف

إرسال تعليق