U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

ذاكـرةُ مَـكـان


الخزانة العلمية الصبيحية بسلا


تشبه علاقتي بالأمكنة، بما فيها البيت والملعب والحديقة والمدرسة والمكتبة وغيرها، علاقة المحب بالمحبوب. هيام وغرام من نوع خاص. فقد تتعدد الأماكن ويظل الانشداد إلى الموطن الأصل. 

    

إنّ سلا، بالنسبة لي مرفع الرأس والمكان الأثير الذي يحتضن ذكرياتي وأحلامي، واقعي ومتخيلي أيضا.  هي السكن والمسكن. أرض تلتقي فيها روحي مع غيرها. أجدُني مغمورا بحبها، ليس باعتبارها فضاء جغرافيا فقط؛ بل لكونها تجليّا من تجليات الهويّة والإبداع.  ومن ثمة، ليس غريبا أن تظهر ملامح ومعالم هذه المدينة في بعض كتاباتي. فديوانيّ (أطياف مائية) و(حيرة الطيف) بهما إشارات كثيرة، صريحة وأخرى ضمنية، إلى سلا الذاكرة والامتداد.

أذكر، من الأمكنة التي طبعت مساري التعليمي والثقافي، مكانا جمعتني به، لفترة طويلة، ألفة حميمة وعلاقة وطيدة، مبعثها الشعور بالفخر والقوة وبالدفء والأمان. أعتبرها من المعالم الحضارية والثقافية، التي ساهمت، بصور متباينة، في تجميل المدينة وتحصين أبنائها ضد الجهل والأمية. هي معلمة، بالفعل وبالقوة، إذ تحتل موقعا استراتيجيا بالمدينة (وسط باب بوحاجة أمام ساحة الشهداء وبجانب مقر العمالة سابقا). إنها، بعبارة، فضاء رحب للعلم والمعرفة وللحوار المتبادل، تعرف باسم: الخزانة العلمية الصبيحية.

ترجع صلتي بالخزانة العلمية الصبيحية إلى سنوات الدراسة، بالمرحلة الثانوية تحديدا. وقد ظل هذا المكان، بالنسبة إليّ، فضاء مغريا وجذّابا إلى أن اكتشفته، رفقة أصدقاء وصديقات من جيلي ومن نفس المؤسسة، التي كنت أدرس بها وقتذاك (ثانوية صلاح الدين الأيوبي بباب سبتة). كان ذلك في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي. ثلاث سنوات (الخامسة والسادسة والسابعة) كانت حافلة بالشغب الجميل، دونما تفريط في طلب العلم والتحصيل.

اللافت للانتباه أن هذه الخزانة كانت تابعة للخواصّ تبنّت مشروعها العلمي والثقافي، أبا عن جد، تأسيسا وتدبيرا، الأسرة الصبيحية ذاتها، منذ سنة 1967. وفي ذلك إشارة قوية للدور الطلائعي الذي كانت تقوم به بعض الأسر السلاوية في هذا المجال، أمثال عائلات الناصري وحجّي وزنيبر والقادري وعواد والمريني وحصّار، ومن حذا حذوها.

ولعل جماليةَ الخزانة ورحابتَها وما ضمته من نفائس المطبوعات ونوادر المخطوطات، ناهيك عمّا اشتملت عليه من وفرة أعداد الجرائد والمجلات والدوريات، هو ما أكْـبَر فينا، نحن تلاميذ تلك الحقبة "الذهبية"، قيمة الدرس المكتبي والحرص المعرفي. كما أن سماحة ونبل مسيريها وتفانيهم في خدمتنا، مكّننا، إلى حد بعيد، من سهولة الاستفادة من خيراتها الوفيرة، بل وزادَ، بصورة أو بأخرى، من حُبّنا لهذا الفضاء الممتع، قصد الارتواء من صفاء ينابيعه، والانتشاء برونق وبهاء رفوفه.

لقد شكلت الخزانة العلمية الصبيحية، بفعل تزايد زوارها وتوافد روادها، من مختلف الفئات والأعمار، حركة ثقافية ملموسة، كان أوضحَها إقبالُ التلاميذ والطلبة عليها يوما بعد يوم، إلى درجة أننا كنا نزدحم أمام المدخل قبيل الوقت، بربع ساعة أو يزيد، حتى نكون من الأوائل عند الدخول (التاسعة صباحا أو الثالثة زوالا). أما بُعيد الدخول بقليل، فقد كنتَ تجدُنا نتسابق إلى مقاعدنا بالقاعة السفلى، وسط أو أقصى الخزانة، حيث تحطُّ مجموعتنا الفتية رحالها. وبفعل العادة باتت مواقعنا تلك مقرونة بالمجموعة "الأيّوبيّة"، سواء في الحضور أم في الغياب. ويعظم هذا الأمر خاصة عند اقتراب مواعيد الامتحان، الدورية منها والنهائية.

أذكر للتاريخ، أيضا، أنني طالعت، صحبة من كانوا يشاطرونني نفس الحماس والهوس بالقراءة إلى تصفّح الكتب وتقليبها، أعمالا أدبية ونقدية كاملة لكتاب وشعراء مرموقين من المشرق والمغرب قبل أن أتعرف إليهم في مقررات وزارة التربية الوطنية. فإغراء البحث في فهارس الخزانة وجاذبية عناوين كتبها، كان أحد الأسباب وراء إذكاء لهف المتابعة والمساءلة، من جهة، وخلف إنماء "لذة القراءة" لدي، بالمعنى البارتي، من جهة ثانية.

لقد قرأت من الأعمال المعروضة بالخزانة، المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران وأغلب كتب طه حسين وروايات عبد الكريم غلاب ومبارك ربيع وقصص محمد زفزاف. كما حفظت شعر أبي العلاء المعري واستمتعت بأشعار المتنبي وأبي تمام والبحتري، بالإضافة إلى مختارات تلقائية من شعر المغاربة. اطلعت أيضا على جملة من أعداد مجلتي المناهل ودعوة الحق وقرأت كثيرا من مقالاتها وأبحاثها، كما طالعت عددا من المصادر والمراجع، في الأدب والفلسفة والفنون، مما كان متوفرا برفوف الخزانة العلمية الصبيحية. وكم كنت أشعر بالزهو، حين أطلب كتابا من المسؤول بالخزانة ويأتي به لأجدني أول من يقرأ هذا الكتاب ولم يسبقني إليه أحد.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل جاوزه إلى ركوب الجدل بين الأصدقاء وفتح باب النقاش على مصراعيه حول مقروء كل واحدٍ منّا ومدى إفادته مما قرأ، كتابا كان أم مجلة أم ديوانا أم غير ذلك. ونشأت عن ذلك، متعة أدبية وعلمية عمقتهما القراءة المتواصلة ودعمهما الحوار والنقد البناء، سواء داخل الخزانة عينها أم خارجها، كالبيت أو الشارع أو الفصل الدراسي، حيث يتبين ذلك من خلال أجوبتنا أو تدخلاتنا الفردية، نحن تلاميذ المرحلة.

وللأمانة، كان يغذي هذا النشاط الحيوي، قراءةً وبحثا ونقاشا، حظوتنا بالتتلمذ على يد خيرة من الأساتذة الباحثين، وقتذاك، ممن كانت الخزانة المذكورة إحدى وجهاتهم في البحث العلمي. وهو عامل مشجع، من بين عوامل أخرى داعمة ومحفزة لمواصلة درب القراءة. بهذا المعنى، كان ذهابي إلى الخزانة العلمية الصبيحية، بسلا، طقسا شبه يومي، حافلا بالمتعة والفائدة، في ذات الآن.

ولعل من باب التنويه، بهذه اللحظة التاريخية الفارقة، في ارتباطها بذاكرة المكان، أن الخزانة العلمية الصبيحية، من حيث تنظيم مخزونها المكتبي وترتيبه وتبويبه، كانت تتوفر على طابق علوي مخصص للأساتذة الباحثين ولطلبة الجامعة، لم يكن يسمح لنا، نحن تلاميذ السلك الثانوي، بارتياده إلا عند الضرورة. وهو من المثيرات الأخرى، التي دفعتنا لبذل مزيد من الجهد والاجتهاد كي نلج الجامعة فيسهل علينا، تبعا لذلك، اختراق الطابق العلوي، بكل فخر واعتزاز.

الآن، قد مرت سنوات طوال عن هذه الذاكرة المكانية (الخزانة العلمية الصبيحية)، تبعا لتقلبات الحياة وتبدّلات الأيام، غير أن الحنين إليها ظل مستمرا لديّ ولم ينقطع، تلميذا فطالبا ثم باحثا. ولم تتوان الذات الكاتبة في استحضاره وذكر فضائله، مكانا رائدا.

ومما سرني وقد اشتعل الرأس شيبا وشعرا، أن قدر لي خلال لقاء ثقافي بالطابق نفسه من هذه الخزانة العامرة، أن أشارك إلى جانب ثلة من الشعراء الأصدقاء، وهم: مراد القادري وجلال الحكماوي وأحمد محمد حافظ، في قراءات ذات احتفال باليوم العالمي للشعر، وأن أسير ندوات علمية ولقاءات أدبية مختلفة، كما تشرفت بتوقيع بعض أعمالي بدعوة من بعض الجمعيات الثقافية بالمدينة، كبيت الشعر وجمعية أبي رقراق وجمعية سلا المستقبل.

ومع التحولات الكثيرة التي عرفتها المدينة، الآن، أتساءل، مثل غيري، تُرى هل لا يزال لهذا المكان نفس التأثير والجاذبية على نفوس تلامذتنا، في الوقت الذي انتشرت فيه كالفِطر فضاءات ومقاهي الأنترنيت؟ وهل سيظل لمطبوعاتها المتعددة ومخطوطاتها المتنوعة، ذاتِ القدرة على مواصلة إغراء الطالب الزائر بالقراءة أو حتى بالتصفح السريع، في غياب محفزات ظاهرة أو آمال مستقبلية واضحة؟ وهل بإمكان نظامها المكتبي المعمول به، أن يضاهي نظام المعلومة وسرعة أقراصها الصلبة منها والمرنة؟ لذلك، أظن أن إعادة النظر في تهيئة العدة المكتبية بهذه الخزانة، وفق استرتيجية حديثة تنسجم والتطور الرقمي، بات ضرورة ملحة لتجديد الصلة بالقارئ وتحفيزه على القراءة والمطالعة.

لعل القائمين على هذه المعلمة الثقافية ماضون في اتجاه التحديث والتطوير المكتبي. فتحية لأهل الصبيحي، كل باسمه وصفته، على ما قدموه من خدمات جليلة للقراء والباحثين من مختلف مناطق المغرب.

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
4 تعليقات
إرسال تعليق
  1. نص مليء بالحب والوفاء والانتماء.
    الآن عرفت كيف ولد كاتبنا واستاذنا

    ردحذف
  2. تحية عطرة و سلام استاذي الكريم ، شهادة مشرفة لصرح ثقافي عتيد ،و شعرت بتأثر كبير كوني أنتمي لنفس الجيل، بدوري كنت من منخرطيها الأوفياء لسنوات عدة كذلك خزانة البلدية، و فعلا نفس الهواجس تراودني، مشكور على هذا المقال القيم

    ردحذف

إرسال تعليق