الوضع اللغوي
بالفصل الدراسي
تركز معظم التعريفات المتعلقة باللغة على أنها ظاهرة تميز الجنس البشري، عن باقي الكائنات الحية الأخرى، غايتها الأساس خلق مجموعة من وسائل الاتصال بين المرسل والمتلقي، وبينهما وبين الجماعة اللغوية التي ينتميان إليها. فاللغة، إذن "ككل الحقائق الواقعية ظاهرة بما للكلمة من معنى. ظاهرة ليس لأنها تعكس الواقع الاجتماعي، الذي هو منبعها وليس لأنها نابعة من الشعور الإنساني وشخصيته؛ ولكن لأنها مظهر جلي يمكن أن نرى فيه المجتمع واضحا"[1].
بناء على
ذلك، تكون اللغة وسيلة المتعلم/الطفل، عن طريقها يتصل ببيئته، وبالتالي وسيلة لفهم
هذه البيئة الخارجية، كمؤسسة لها طقوسها وضوابطها المختلفة. واللغة، كما هو معلوم،
تشمل لغة الكتابة ولغة الحديث الشفهي بهدف التعبير عن الأفكار والمشاعر
والرغبات... فما العلاقة إذن، بين الشفهي والمكتوب؟ وإلى أي حد يتأثر
الواحد منهما بالآخر؟
مما لا شك
فيه، أن الطفل يتأثر بالعوامل التي ينشأ فيها، فهو يكتسب عن طريق مجتمعه مجموعة من
العادات، الفكرية والاجتماعية والنفسية،، وغيرها، بالإضافة إلى أساليب تعبير
المجتمع اللغوية الدقيقة. والملاحظ أنه يستعمل أصواتا للدلالة على ما يريد التعبير
عنه قبل أن يكتسب الكلمات الصحيحة، ويدرك الموضوعات في شموليتها، ويميل إلى حفظ
الأغاني والأناشيد، وإلى كل ما لا يتطلب مجهودا عقليا عنيفا[2].
وبما أن أول
تواصل يباشره الطفل لا يخضع بالضرورة لقواعد اللغة، فقد تنشأ (الأخطاء) مع الطفل
فتغفل العائلة أو القبيلة عن تصحيحها لتبرز، في الأخير، أثناء إنجازاته الكتابية.
ومعنى ذلك، أن الحديث الشفهي سابق زمنيا على فعل الكتابة. فكيف يؤثر المسموع
والمنطوق في عملية الكتابة، إذن؟
نظرا
للارتباط الوثيق بين العامية (كلغة أم) بالحديث الشفهي، فقد استطاعت بقوة نفوذها
أن تنتشر، بشكل كبير، داخل المؤسسة الكبرى/المجتمع وتبسط سلطانها في كل مكان، بيتا
كان أو شارعا أو ملعبا أو سوقا وغيره، ومن ثمة، في المدرسة أيضا. من هنا كانت
العامية تزاحم اللغة العربية وتؤثر فيها، بصورة أو بأخرى، ذلك أنها تتسم بشيء من
"الليونة والمرونة". فهي تنحو دائما نحو السهولة والاقتصاد. من ذلك
مثلا، أنها لا تهتم بحركات الإعراب، فتجد التلميذ يعمد غالبا إلى تسكين أواخر
الكلمات عملا بالقاعدة المتداولة: "اجزم تسلم". وهكذا نجد مظاهر هذا
التبسيط، خاصة في درس اللغة، أكثر إيغالا في قلب التلميذ، لأنه يجد فيها استجابة
لقدراته الفكرية والذهنية.
وإذا كان
الأمر كذلك، فإن التلميذ خلال مرحلة الكتابة، سرعان ما يحس بانفصام في مكتسباته
اللغوية، إذ يصطدم بازدواجية العامي والفصيح، التي ينتج عنها انتقال مظاهر الطابع
الشفهي إلى اللغة المكتوبة. أما في التعبير الكتابي، فيجد التلميذ نفسه مجبرا على
التعبير بالفصيح، ولما يمتلك بعد، معجما لغويا قادرا على خوض غمار الكتابة. وتبعا
لذلك، تجده- من حين لآخر- يستعمل كلمات وتعابير من القاموس العامي، قصد سد الثغرات
الموجودة في كلامه الكتابي، سواء في إنشاءاته أو تحضيراته المنزلية.
ولا ريب
أنه، من خلال الأخطاء التعبيرية، التي يرتكبها التلميذ نلمس استخدامه للغة مضطربة،
وبالتالي، يتبين مدى تأثير العامية على لغته الفصيحة، نحو قوله: (يشتغل أبي مهندزا)
بجعل السين بدل الزاي من كلمة (مهندس) ولكونها شاعت في الكلام الدارج اختلط الأمر
على التلميذ فأدخلها ضمن اللغة الفصحى. كما نجد، أيضا استعمال ألفاظ أجنبية دخيلة،
وقد امتزجت بالفصيح، مثل قوله: (ألقى البوليس القبض على اللص) بدل الشرطة أو
المخزن، ونحو قوله: (يقرأ والدي الجورنال) بدل الجريدة أو الصحيفة، وغيرها من
الاستعمالات، وهي كثيرة تعم مختلف فروع مادة اللغة العربية، من قراءة ولغة وتعبير
وإنشاء، التي تظهر، بوضوح، مدى التداخل الموجود بين الشفهي والمكتوب، وبالتالي بين
المدرسة والواقع. فماذا عن هذه الأخيرة وما مدى اتصالها أو انفصالها عن الوضع
اللغوي الراهن؟
كان تصور
المدرسة القديمة، غالبا ما يقوم على الفصل بين المدرسة والواقع المعايش. وبالتالي
التمييز بين ما يجري داخلها من أنشطة وبين ما يحدث خارجها. ومن هنا اقتصرت المدرسة
في دورها على إعداد الأطفال وشحنهم بمعارف الكبار ليس إلا. في حين أن المدرسة
الحديثة، سعت جاهدة لإزالة الحواجز بينهما، ومن ثم أصبح من غير الممكن فصل وظيفة
المجتمع، باعتباره يكسب الفرد عادات وتقاليد ونظم مشتركة، عن وظيفة المدرسة، التي
تستقطب صغاره وتمكنهم من أن يلائموا بين ذواتهم وبين البيئة، التي يعيشون فيها،
ماديا واجتماعيا. ولذلك اعتبرت التربية الحديثة "المدرسة في أساسها مؤسسة
اجتماعية أنشأها المجتمع للإشراف على التنشئة الاجتماعية"[3].
فإلى أي مدى
توظف المدرسة مادتها التربوية، علما أنها تواجه جماعات لكل واحدة منها ظروفها
الخاصة ولغتها المميزة؟ وهل تعكس برامجها ومقرراتها ما هو كائن على مستوى الواقع؟
وكيف تستطيع أن تقرب المسافة بينها وبين الحياة؟
لا ريب أن
المجتمع يعتمد على المدرسة، في إمداده بمواطنين صالحين يعملون على تحديد معارفه
وقيمه الأخلاقية والفنية و"المدرسة في هذا الحال لا تقف عند إمداد المجتمع
بأفراد عاديين شبيهين كل الشبه بأفراد المجتمع خارجها، بل عليها أن تحسن النوع
الذي تخرجه وأن تكون عاملا صالحا"[4]. وإذا كان دور المدرسة هو ضمان توجيه
المجتمع الوجهة الصحيحة، عن طريق ما تزود به طلابها من معارف وأخلاق ومبادئ. فهل
تستطيع، لوحدها، تحمل هذا العبء؟ وبالتالي، هل تستطيع أن تلبي اختيارات التلاميذ
المختلفة، باختلاف انتمائهم الاجتماعي وباختلاف مستوياتهم التعبيرية؟ وكيف لها، في
نفس السياق، أن تعالج ما وقعت فيه مجموعة القسم من انحرافات لغوية أو مزالق
تعبيرية؟
تعتبر
مجموعة القسم، ظاهرة اجتماعية كلية، ينعكس فيها المجتمع ويعبر عن نفسه بنفسه، عن
طريق نماذج التواصل ونقل المعرفة. لكنه، رغم ذلك، فمجموعة القسم لها استقلالها
وتفردها، ليس في المجتمع فحسب؛ وإنما في أحضان المؤسسة الأوسع (المدرسة) مما
يكسبها طبيعة خاصة ومتميزة. وتأسيسا على ما سبق، فإن مجموعة القسم، كميدان للعمل
التربوي، تنشأ فيه علاقات ديناميكية بين أقطابه. تلك الأقطاب تتمثل في المدرس
والتلاميذ، كمحورين أساسيين لا يمكن للعملية التعليمية أن تقوم إلا بهما. وهذه
العلاقة، التي تجمع ما بين الطرفين هي علاقة تواصل بالأساس. فداخل كل قسم دراسي
يقدم المدرس مجموعة من المعلومات إلى تلاميذه، ويزودهم بما يحتاجونه من وسائل
الاتصال (لغة، مدارك معرفية، قيم أخلاقية...)، وغيرها. ومن هنا، كان القسم الإطار
المكاني، الذي يستقبل عددا من الأفراد (تلاميذ) الراغبين في التعلم، فيتكفل المدرس
بتعليمهم. فكيف تتم هذه العملية؟
إذا كان
الاهتمام قد انصب قديما على المدرس، باعتباره القطب المسير والموجه لمجموعة القسم
(كيف يقدم درسا؟ كيف يجعل من هذا الدرس درسا ناجحا؟ وما هي الظروف التي تساعده على
هذا النجاح؟..)؛ فإن الاهتمام اليوم، نظرا للتحول الذي عرفه مجال التربية الحديثة،
ركز الانتباه حول التلميذ. ومن ثمة، أصبحت فرضية التواصل داخل مجموعة القسم، تسير
في اتجاهين: عمودي وأفقي. بمعنى آخر، يكون الحوار من المدرس في اتجاه التلميذ أو
العكس من التلميذ إلى المدرس، أو من تلميذ لآخر. وبفضل هذا النظام العلائقي، الذي
يحدث داخل القسم، تدخل، هذه الأخيرة، في علاقات دينامكية تطبع التفاعل الحاصل بين
أعضائها بطابع السيرورة والصيرورة معا. ونتيجة للتداخل، الذي يقع بين المستويين
تصبح العملية ككل، شبكة للتواصل لا تعرف الثبات وإنما الحركية والحوار:
(مدرس/تلميذ) (تلميذ/مدرس) (تلميذ/تلميذ)... وهكذا
دواليك.
لكن ماذا عن
الصعوبات والمعيقات، التي تعترض كلا من المدرس والتلميذ على السواء؟ وما هي وسائل
الدعم، التي يعتمدها المدرس في تقويم عمل تلاميذه؟
لعل أول
ملاحظة، تتبدى داخل الفصل الدراسي، شيوع كلمتي الخطأ والصواب، فعادة ما يوجه
المدرس أسئلة من قبيل: أين يكمن الخطأ؟ ما هو الصواب؟ من يصحح؟.. وما شابه. فماذا
نقصد بالخطأ داخل الممارسة التعليمية التعلمية؟ وما الغاية من وجود الصواب؟
وبالتالي ما نوعية العلاقة بينهما؟
يقصد
بالخطأ، داخل الفصل الدراسي، كل تحريف أو تصحيف لكلمة أو تعبير، كأن يوظف التلميذ
مفردة في غير محلها، أو يرسم أحد حروف هذه المفردة بشكل يخالف الرسم السليم لها،
أو يحيد عن القواعد النحوية والصرفية، التي تضبط الاستعمالات اللغوية السليمة.
وغالبا ما يصنف الخطأ،تبعا لذلك، إلى خطأ نحوي،صرفي، لغوي، تعبيري وإملائي. وهو،أي
الخطأ، في آخر المطاف، يقابل الصواب لأن الخطأ يستدعي بالضرورة وجود الصواب؛ غير
أن ثمة، بعض المواقف التعليمية والتربوية تفضل الحديث عن (الغلط) عوض استعمال لفظة
(الخطأ) التي تحمل معاني ضمنية تدل على التنقيص وتتضمن إدانة غير مباشرة لمن
ارتكبه.[5]
ومهما يكن،
من أمر هذا الاستعمال، فإن دور الصواب يتمظهر في تصحيح الخطأ/الغلط، وتقويمه وفق
القواعد الضابطة للغة الفصيح. بيد أنه بالرغم من الجهود، التي يبذلها المدرس أثناء
عملية التصحيح؛ فإن الأخطاء المصححة سرعان ما تتكرر عند التلاميذ، سواء في التواصل
الشفهي أو المكتوب. وهي أخطاء راجعة، فيما يظهر، إلى فقر وضعف في المعجم اللغوي
لدى المتعلم، من جهة، وإلى إغفاله ما لفعل الكتابة، بشكل منتظم، من دور في تحسين
تعبيره، من جهة ثانية، وإلى مشاكل الازدواجية إن لم نقل التعددية اللغوية، التي
يعاني منها، من جهة ثالثة.
ومع ذلك،
وبين هذا الموقف أو ذاك، تبقى العملية التعليمية التعلمية، عصية على التحليل، إذ
تعترضها على الدوام، مجموعة من الصعوبات والمعيقات، منها ما ارتبط بشخصية المتعلم
والمعلم على السواء، ومنها ما اتصل بالمناهج والكفايات، مادة ومنهجا، ومنها أيضا
طبيعة العمل الجماعي التواصلي لعملية التدريس، نفسها. وما الحديث عن الوضع اللغوي
بالفصل الدراسي، بتجلياته المتعددة والمتنوعة، سوى واحد من كبريات المشاكل
والقضايا، التي تقض الجسم التعليمي وتنخر أوصاله، في غياب بث مباشر للتقويم
والمعالجة...
الإحـــــالات
[1] -
مصطفى بوشوك. علم اللغة الاجتماعي. مجلة التدريس. ع 4-5 س 1978 . دار النشر
المغربية. ص41
[2] - أحمد زكي صالح. علم النفس التربوي.
مكتبة النهضة المصرية. 1972. ص 103-104
[3] - المرجع السابق. ص24
[4] - صالح عبد العزيز وعبد العزيزعبد
المجيد. التربية وطرق التدريس. دار المعارف. ج 1. س 1976. ص75
[5] - مصطفى بوشوك. تقويم الجانب اللغوي خلال تدريس
مواد اللغة العربية بالتعليم الثانوي. مجلة الدراسات النفسية والتربوية. مطبعة
الأندلس. ع 3. س 1983. ص55-56
+/ نشر المقال بمجلة "الحياة المدرسية" العدد 8 السنة 2008
إرسال تعليق