U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

في بلاغة القصة النسائية

 

حققت الكتابة النسائية، التي صدرت عن المرأة، خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي وما بعده، انتشارا ملحوظا على مستوى الإنجاز والتداول معا. كتابة استطاعت اختراق مجالات عدة، كانت إلى وقت قريب حكرا على الكاتب/الرجل، مثل الصحافة والفلسفة والسياسة والاقتصاد وغيرها. إنها تلك الكتابة، التي خطّت لنفسها مسارات جديدة وتبنت لمشاريعها مداخل ومقاربات مغايرة، جعلها جديرة بكل قراءة ومتابعة...

ولما كانت الكتابة الأدبية، ومنها الإبداعية تحديدا، جزءا هاما من المشهد الثقافي المغربي العام، فقد احتلت القصة القصيرة موقعا متميزا برزت معالمها في ما صدر من مجاميع قصصية، تباينت أشكالها ومضامينها بتباين رؤى الكاتبات وباختلاف انتماءاتهن الفكرية والفنية.

1.    في دوافع الكتابة/ القصة

لعل أبرز ما يلفت الانتباه، ونحن نتابع عددا من الأعمال القصصية النسائية المعاصرة، يتجلى في الحضور المكثف لشخصية المرأة بوصفها كاتبة، قياسا إلى زمن الستينيات والسبعينيات، الذي لم تتجاوز فيه أسماء الكاتبات عدد رؤوس الأصابع (خناثة بنونة، رفيقة الطبيعة، ليلى أبو زيد)، من جهة، كما يتجلى، في الحضور النوعي لمفهوم الكتابة، لدى المرأة المبدعة، من جهة ثانية، حيث لاحت مظاهر الجرأة الأدبية في الطرح والبوح، وبانت دوافع الذاتية والموضوعية، في التعبير ومشاركة الرجل/ المبدع هموم الكتابة ولذتها دونما مركب نقص أو إحساس بالدونية.

تبعا لذلك، وبحكم الإبدالات التي عرفها المجتمع، أضحت الكتابة، عند المرأة، فعلا ثقافيا وضرورة إنسانية لا غنى عنها لإثبات الذات والوجود. ولنا في عدد من الحوارات والشهادات التي تمحورت حول مفهوم الكتابة ودوافعها ما يعزز حرص النساء المبدعات على ضمان الانسجام بين وعيهن الإبداعي، من جهة، ووعيهن الواقعي، من جهة ثانية، أثناء لحظة الكتابة.

في هذا السياق، شكلت دوافع الرغبة والمغامرة والحلم والتجدد والمغايرة وما سواها، محطات رئيسة رست عندها الأصوات النسائية، في تجليتهن لعوالم وأفضية الكتابة. فهذه الكاتبة (وفاء مليح) إذ تعنون إحدى شهاداتها "أنا أكتب إذن أنا موجودة" تتفق بصورة أو بأخرى، مع نفس المعنى الذي تضمنه تعبير الكاتبة (منى وفيق)، حيث الكتابة مسألة وجودية، تقول: "أكتب لأحيى داخل ما أكتبه وليحيا الآخرون داخلي".

وهذه الكاتبة (لطيفة باقا) حين تحصر الكتابة في "قدرة الإنسان على تجديد نفسه"، عن طريق التخيل، ما دام العالم كما هو لا يعجب، تدعم رأي الكاتبة (مليكة نجيب) عندما تعتبر، هي الأخرى، الكتابة تخييلا "يحرر الفكر من ربقة المباشر والمحسوس والتبسيطي".

أما احتفاء الكاتبة (ربيعة ريحان) بالكتابة عبر وصفها لها "بالورطة الجميلة التي ليس من السهل التخلي عنها، لأنها شهوة وكشف وحلم ورغبة"، من جهة، أو لأنها "تنوير ما بالداخل وتفجير له" من جهة ثانية، فلا يقل قيمة ورمزية عن احتفاء الكاتبة (رجاء الطالبي) حين تعلن أن "الكتابة عودة إلى الرحم البدائية، تلك التي تمنح الحياة وتزخ في الجسد تلك الدماء الصاخبة الطالبة للحياة والمنتصرة على كل موت أعجف".

هكذا، وبين هذا التعبير أذاك، تبقى الكتابة، كمفهوم ومشروع، لدى هؤلاء وغيرهن من القاصات المبدعات، مجالا خصبا للإبداع والتباري، بل وحقا في الاختلاف وإبداء الرأي إزاء مجريات الحياة، دونما الحديث عن جلب المتعة الأدبية وطلب الفائدة التاريخية، على حد سواء.

إنها شهادات وحوارات، وإن لم تسعف كليا في استجلاء الدوافع الحقيقية الكامنة وراء اقتراف الكتابة، من لدن المرأة، نظرا لتشعب هذه الشهادات وتبدل هذه الحوارات، بحسب سياقاتها ومقاماتها؛ فإنها تسمح بإلقاء نظرة ولو مصغرة أو جزئية عما في هذه الكتابة النسائية، من طموح وجهد إبداعيين، غالبا ما نجد صداهما متجليا، بصيغ متفاوتة، تصريحا وتلميحا، في إنتاج المرأة القصصي.

 

2.    الكتابة/ القصة بين الذاتي والموضوعي

 

حرصت القصة النسائية على تنويع موضوعاتها بحسب الغاية والوسيلة. أما الغاية فكانت غايات متعددة، منها استرجاع الذاكرة وإحياء المنسي تارة، ومنها مقاربة الواقع ومساءلة الذات، تارة أخرى. وأما الوسيلة، فتمثلت في اللغة، بكل تداعياتها وطرائقها التعبيرية المختلفة.

لقد أبانت المرأة المبدعة عن رحابة فكرها وقدرتها على التخيل دفعا للصمت وطلبا للحياة، ولعل إلقاء نظرة خاطفة على مجمل عناوين المجاميع القصصية، التي أبدعها يراعها يحيل بشكل قوي إلى خصوبة الموضوعات وشساعة اللغة. ومن هذه العناوين الدالة نذكر: "هذه ليلتي"، "همس النوايا"، "ضفائر"، "بعض من جنون"، "أجنحة للحكي"، "الوهم والرماد"، "شموس الهاوية"، "عين هاجر"، "السماوي"، "ما الذي نفعله"، "منذ تلك الحياة"، "ترانت سيس"، "نعناع، شمع وموت"، "أنين الماء"، "اعترافات رجل وقح"، "الجثة الحية" "ظلال وارفة"،،، والقائمة طويلة...

ناهيك عن عناوين النصوص المبثوثة، في ثنايا كل مجموعة، فهي الأخرى تتنوع بتنوع الحكاية أو تتشكل بتشاكل العناصر المكونة، لهذه الحكاية أو تلك، شخوصا وأمكنة ولغة وأحداثا وما إليها. فمنها ما ارتبط بالشخصية القصصية في حالاتها النفسية والاجتماعية، وفي حركاتها وسكناتها اليومية، ومنها ما ارتبط بعنصري المكان والزمان في تشعيباتهما المختلفة، ومنها ما اتسم بالرحابة مجازا واستعارة. نورد من هذه العناوين المختارات التالية: (فوبيا)، (لا يشبهني)، (جثة بالمزاد)، (المنزل رقم 16)، (نزيف الشفافية)، (حديقة أبيقور)، (مأدبة الدم)، (مجرد اختلاف)، (على أجنحة السراب)، وردة حمراء)، (اشتهاء حزن)، (الازدحامولوجي)، (ولادة)، (حينما تتكلم المرأة)، (حب في غير زمانه)، (قبلة فقط تكفي)،،، وغيرها من العناوين الحاملة لأكثر من دلالة، لغة وخطابا.

لقد احتفت القصة النسائية بالذات/ الأنثى أيما احتفاء، حيث حضرت المرأة في أكثر من قصة، سيرة كانت أم ذاكرة أم لحظة راهنة، مثلما نجد في مجموعة "ضفائر" للطيفة لبصير إذ كل قصة، من قصصها الإحدى عشرة، تحمل اسم علم مؤنث (عالية، منانة، زهرة، نانسي، طامو، ليلى، رقية، زينب، حياة، غيثة، أحلام) وترصده حكائيا عبر تجلية أبعاده وأدواره ومساراته المختلفة. تقول الكاتبة عن إحدى شخصياتها النسائية: "منذ سنوات طويلة وطامو حزينة جدا، أصبح الاسم طامة على عاتقها. "طامو" في زمن مثل هذا الزمن، لا يمكن إلا أن يعيق جمالية الجنون اللذيذ. لم تكن تعرف أن هذا الاسم متعب إلا حين كبرت، فقد كان يبدو لها عاديا في طفولتها، لكنها في الأيام التي قضتها في الثانوية، كانت أعين زميلاتها تلاحقها كلما هب هذا الاسم من فم الأستاذ، فقد كانت تشعر أن هذا الاسم قديم جدا، ذلك أن جدتها ورثت هذا الاسم من جدتها هي أيضا، وكم مرة عادت وهي غاضبة وأقسمت أن لن تعود إلى المدرسة والدراسة..." (ضفائر ص29).

وفي نفس السياق، احتفت القصة النسائية، بهذه الذات في صلتها بالآخر، من جهة، وفي علاقتها بالأشياء من حولها، من جهة ثانية. تحاور العالم وتسائل الزمن، بما أوتيت من قوة الفكر وبلاغة التعبير، ساخرة تارة، ومنتقدة غاضبة، تارة أخرى، كما في هذا الشاهد القصصي: "رائحة العرق والضراط، وهذا الطفل أمامي ما زال يلعق مخاطه بتلذذ يبعث على التقزز، والحيوان خلفي ازداد لهاثه بشكل مخيف، وبدون شعور صرخت: أريد أن أنزل. وأخيرا نزلت. لا أعرف أين بالضبط، لكن لا يهم. ملأت رئتي بالهواء. حقيقة كان هواء ملوثا، لكن أفضل مائة مرة من هواء الحافلة." (ترانت سيس ص47).

وهكذا تحضر موضوعات الذات والجسد والقهر والمعاناة والصمت والعزلة، كما تحضر موضوعات الحب والطفولة والطبيعة والوطن والزواج والطلاق والحرية وعوالم البيت والشارع والوظيفة.. وما إليها، بغض النظر عن تلك الانفلاتات الأخرى، المقصودة وغير المقصودة، التي تناشد التحرر والانعتاق وتسعى وراء طلب الحكي وتحقق الذات بما يليق بها، كصوت إنساني وإبداعي، في ذات الآن. تقول إحدى بطلات الزهرة رميج: "شعرة أنا أتخبط في محيط عجين لا لون له ولا حدود. من يسلني ويقذف بي في الفضاء الشاسع حيث أتلاشى في ذرات النور والهواء؟ من لي غيرك أيتها العزيزة؟ مدي يدك البيضاء واسمحي لي أن ألوث نقاءك الطاهر بسواد أحزاني. من أين أبدأ حكايتي؟ أمن البداية أم من النهاية؟ وأي قالب أختار؟ بل أي قالب يناسبها؟ هل التوفيق بين الأصالة والحداثة أم حكي النساء الضارب في أعماق التاريخ؟ كلاهما مناسب لها، لكني أفضل حكي النساء، حكي الجدات على الخصوص. فأنت، عزيزتي، نقية نقاء الأطفال ومثلهم لا تتحملين تعقيدات الأشكال. سأرسمها لك خطا مستقيما تسيرين فوقه خطوة خطوة. قد أقف بك أحيانا عند بعض التفاصيل والجزئيات -مثلما تفعل الجدات- فلا تنزعجي. ليس ذلك حبا مني للاستطراد المجاني، وإنما هي الضرورة. وللضرورة كما تعلمين أحكام" (أنين الماء ص51/52).

 

3.الكتابة/ القصة بين الواقعي والتخيلي

 

تمتح القصة النسائية المعاصرة من مرجعيات متعددة ومختلفة، منها ما ارتبط بالواقع وباليومي والهامشي، كما أسلفنا، إذ النبش في كل العوالم والعوامل، التي لها صلة، من قريب أو بعيد، بالشخصية القصصية. هذه الأخيرة، تبدت هي الأخرى، في صور متباينة، صور سالبة أحيانا، وصور موجبة أحيانا أخرى.

لقد تعاملت المرأة الكاتبة مع شخوصها الواقعية والمتخيلة، بانفتاحية ومرونة كبيرتين، حيث متابعتها لها، في أدق التفاصيل والجزئيات بالوصف والتشريح والعناية المركزة من أجل تقريب القارئ، من هذه الشخصية أو تلك، ورسم حالاتها النفسية المتلونة بتلون المواقف والأحداث، وبالتالي خلقِ حوار مفتوح بينهما، بحسب التأثير المتبادل. تحكي سعاد الناصر (أم سلمى) مثلا، عن حكاية طفل وما جرى حين قفز هو وصديقه إلى سطح البيت المجاور لبيته قصد جلب كرته الضائعة، ثم الذهول والخوف اللذين نتجا عن ذلك حين عثرا على جثة بالسطح، تقول: "لم يستطع أحد أن يلوم الولد على فعلته، لأنه منذ ذلك اليوم وهو ساهم، منطو على نفسه، عيناه زائغتان، يطلب من والديه أن ينام معهما في غرفة نومهما. لم يعد يقفز فوق ظهر أخيه ويتعلق في عنق والده كما اعتاد حين يدخلان معا، ولم يعد يخرج للعب مع أطفال الحي، حتى إنه أخفى الكرة تحت السرير، انتبهت الأسرة إلى ضرورة تغيير نمط حياتها، ابتداء من تصرفاتها إلى علاقاتها مع بعضها البعض أو مع جيرانها المحيطين بها. فحاول الأخ أن يخرج أخاه مما هو فيه، بدأ يصحبه إلى المسجد، ويقضي معه وقتا أطول، كما بدأ والده يروي له قصصا عن أبطال مروا في التاريخ كانوا يواجهون المخاطر بشجاعة ولا يخافون." (ظلال وارفة ص75/76)

وهكذا، لم يكن غريبا أن نجد شخصيات إنسانية، قاصرة أو راشدة، تتجاذبها الحياة من كل الجهات وتغرقها في بحرها اللجي العميق. شخصيات تفاوتت أعمارا وسلوكا وانتماءا، وغالبا ما كانت تمارس عليها تعرية إسمية، حيث الاكتفاء بالصفة أو اللقب (طفلة، زوجة، أم، يتيمة، شرطي، مشعوذة، عاملة، شيخ، كاتبة...) كما تقدم أحيانا، عبر ضمير الغائب (هي) أو تترك للتعبير عن نفسها بضمير المتكلم (أنا) أحيانا أخرى. وفي مثل هذا التنويع ما يخدم القصة برمتها، في بعديها الواقعي والرمزي معا. تقول ربيعة ريحان على لسان إحدى بطلات قصصها: "لم أتزوج.. كل من تقدم إلي كان عاريا من الإحساس بمذاق الألم ولا يرقى إلى مدارج الحلم، والذين راهنت عليهم من الحزانى فشلت في جرهم إلى الشغف الذي يسكنني، والرابض استعدادا إلى فهمهم والطبطبة على ظهورهم المكدودة. لهذا لم أعد أحب نفسي.. مات أبي الذي كان يدللني، ومتت إحدى صديقاتي ومات أقرباء لي ومات كلب أخي وقطط الجيران، وطلعت بعدهم تلك الشعيرات البيضاء التافهة في جهة من رأسي. حزني الأكبر كان على أبي. كنت أتقاسم وإياه الكثير من الملامح والطباع. كان مطمئنا في مراهقتي إلي وإلى هدوئي وتعلقي عكس البنات في الشارع. لم يكن يفهم سببا لشرودهن وتصعلكهن بلا هدف، ولا استطاع أن يتبين متعة في ذلك. كنت مثله الذي لا يتوانى عن التباهي به كوني قارئة نهمة لا شيء يشغلني غير كتبي." (أجنحة للحكي ص78).

علاوة على ما سبق، لم تكن الشخصية القصصية، في القصة النسائية المعاصرة، بمعزل عن محيطها الخارجي، فالتأثير بدا واضحا إلى حد الانصهار والذوبان. ومن ثمة شكلت الأمكنة، مدينة وقرية، مقهى وغرفة، دربا وساحة جزءا من هويتها تنفتح بانفتاحها وتنغلق على نفسها، حين انغلاقها، وهو ما يضفي أبعادا دلالية عميقة على مدى تعايش الشخصية وواقعها الجغرافي، من ناحية، ومدى عمق أسئلتها الوجودية والوجدانية، التي تشغلها ككائن فاعل ومنفعل، من ناحية ثانية.

ومن هنا، تبرز الكتابة، في سياق تبادل الأدوار بين الواقعي والتخيلي، كتفكير واع ومغامرة إنسانية تقـود الحكاية/القصة، عبر لغة حية وثرية، تجمع بين الروح والجسد، في ذات الآن، مانحة لمتلقيها متخيلا قابلا لتعدد القراءات والتفسيرات والاحتمالات. تقول مليكة نجيب عن بطل قصتها (غرفة النوم) وما اعتراه من حالات الضيق وما تجاذبته من أفكار وتخمينات انتهت بعزمه على الانتحار: "يضيء الغرفة. يفتح النافذة. يصطك بابها بالجدار فتحدث ضجة. ينتبه إلى دموع السماء الغزيرة. لا يتحمل كآبة الطبيعة. يغلق النافذة. يكتفي بانفراج ضيق لباب الغرفة، يهتدي بالضوء المتسلل إلى العثور على قلم ودفتر. يشرع في تحرير رسالة الوداع، بعد أن خط سطرين بلهفة من يسار الورقة إلى يمينها، يتوقف برهة. يتراجع. يجذب الورقة. يعصر الحروف بين يديه ويقذف بها على وجه الفراغ، لن يحرر الرسالة بلغة أجنبية، الأفضل أن يبوح عما بدواخله بلغته الأصلية مرضاة للدوائر السياسية والحزبية التي ينتمي إليها. لم يفقه للأمر سرا. تتصارع دقات قلبه الوجل، وتتصاعد وتيرتها، يحسم أمره. سيترك رسالة..." (السماوي ص42/43).

وتبعا لهذا المقام، لا غرابة أن نجد أنماطا من الواقعية وأصنافا من المتخيل تتداعى في القصة النسائية المعاصرة. فبقدر ما هي مشدودة إلى تاريخها وزمانها بقدر ما هي متأملة وناظرة إلى العالم، بمنطقها الذاتي الخاص. تقول رجاء الطالبي في أولى قصص (عين هاجر): "بعض المدن مثل حبيباتنا تلك اللواتي عبرن ويعبرن عمرنا الضوئي، لا يمكن أن تطرقهن دون أن يتركن بأعماقك قبسا من ضوء أو من جنون عاهل يحرق يباسك وجفاف أراضيك، يغذي بالطراوة أعماقك التي أتى على أخضرها بعض من المدن أو بعض من النساء. بعض المدن لا يمكن سوى أن تهجرها وفي حلقك، فمك حفنة من تراب، ومن اشمئزاز.. سهل لقاؤها.. كما هين عبورها وتركها وراء ظهرك.." (ص11).

 

4.الكتابة/ القصة بين الدلالي والجمالي

 

مثلما انشغلت القصة النسائية المعاصرة بالحكاية، من خلال تأثيث المشاهد وترتيب الأحداث وتوصيف الشخصيات، انشغلت أيضا، بمكون اللغة واعتبرته معبرا فنيا أساسيا لبلوغ المتعة الأدبية. ولم تكن هذه اللغة لتقف عند حدود مرسومة سلفا، لأنها اختارت أن تستمد مشروعيتها من تنويع العتبات والمصادر والإحالات. فالتاريخ والسينما والأشعار والأمثال والأغاني والرموز والأساطير والأخبار، عناصر ساهمت كلها، في تطعيم الحكاية كحدث، كما ساهمت في ترسيخ قيم جديدة، تعيد إلى العالم توازنه وانضباطه؛ بل وتدبير علاقات إنسانية، واقعية وافتراضية، يتداخل عبرها الماضي بالحاضر والآتي، كما في هذا المقتطف القصصي، الذي تتابع فيه فاطمة بوزيان ساردتها وهي تبحث عن حي قديم عاشت به طفولتها وعادت إليه للذكرى، بعد عدة سنوات، لكن الحي كان قد راح مع الزمان. تقول: "اقتحمت ببصري الهندسة الجديدة: بيتنا تحول إلى مخدع هاتفي، فوقه عدة طوابق مزروعة بالصحون المقعرة وأجهزة التكييف..بيت الجارة أصبح متجرا عصريا بجانبه "سيبر أنترنيت"، على اليمين عدة عمارات، الطوابق السفلى كلها متاجر، مخادع هاتفية، مقاه صغيرة، قاعات رياضة، حلاقات نساء، حلاقات رجال، وكالات عقارية.. المكتبة الصغيرة التي كنت أشتري منها روايات نجيب محفوظ وأستبدل منها قصص عبير انتصب مكانها كشك لبيع السديات وفك الشفرة، صوت عمرو خالد يختلط بغناء شيخات على شاشة تلفزيون.. توابل عجيبة !.. من يفك لي شفرتي؟..." (هذه ليلتي ص86).

وبين هذا المطلب أو ذاك، تمادت اللغة، كسلطة رمزية أحيانا كثيرة، في القصة النسائية المعاصرة، في خرق المعتاد وتأسيس الاختلاف. لغة سردية واقعية وانزياحية ورقمية، زاوجت بين الفصيح مرة وبين العامي، مرة أخرى. لغة شاءت إثارة القلق أكثر ما نشدت الهدوء والطمأنينة، سردا ووصفا وحوارا.

ولعل تداخل الأحداث وتناسل الحكايات، داخل القصة الواحدة، سردا وحوارا واسترجاعا، كان من العلامات الكبرى لذلك التحول الذي طرأ على مفهوم الكتابة النسائية. فإحساس المرأة الكاتبة باللغة، عبر مستوياتها المتعددة، مكنها من النفاذ إلى الأعماق وقادها، وعيا ومعاناة، نحو التميز وبلوغ المرام. ولنا في شاهد السعدية صوصيني القصصي ما يحسن به المسك والختام. تقول في قصة (قبلة فقط تكفي): "اختتمت الجلسة بعد أن ردت مدامLE BAISER  على جميع المتدخلات بتوصيات رفعت الأولى إلى مسؤول المدينة، والثانية إلى أمين عام الأمم المتحدة.. تقول التوصيتين: تحية قبلاتية وبعد: نحن معشر جارات مدام LE BAISER الآتية أسماؤنا، إننا أسسنا جميعا جمعية سميناها "قبلة واحدة تكفي" ووضعنا على رأسها مدام LE BAISER نطالبكم أولا بمنحنا الترخيص لتنظيم مسيرة احتجاجية ضد انعدام أو ضعف القبلة في حياتنا،  بين أزواجنا وأبنائنا وعائلاتنا وكل من يعيشون من حولنا، ثانيا، بتغيير قوانين أحزابكم، وإدارتكم وتعويضها بقانون القبلة للجميع.. وإذ نتوسم فيكم خيرا، ونحن متيقنون أنكم تحبون القبل وتعرفون إكسيرها على استقرار النفوس والعقول، ستعملون ما في وسعكم من أجل أن تعم القبل بلادنا وبلاد العالم، حتى لا يجوع طفل، ولا تتشرد امرأة، ولا تغير قبيلة أو يحتقر قوي ضعيفا، أو تضيع شعوب بسبب الأمراض أو الحروب.. وصلت الرسالتان إلى المعنيين بالأمر، وفي الصباح الباكر شوهدت سيارات الأمن وهي تقتاد مدام LE BAISER وجاراتها إلى مخفر الشرطة.." (الجثة الحية ص28).

 

على سبيل الختم

 

يتبين، بعد هذه الجولة البانورامية في الإبداعات القصصية التي كتبتها المرأة، على فترات متباعدة أو متقاربة أحيانا، أن الوعي لديها بالكتابة، كتصور وممارسة، حاضر بقوة، تكشفه اختياراتها الموضوعاتية، من جهة، وتأصله ذائقتها الفنية، من جهة ثانية. وعي، وإن اختلفت مقاييسه وحدوده، مكنها من تحقيق نجاح إبداعي متميز لا يقل أهمية عما أبدعه الرجل/ الكاتب ولا يعدم أدبية ورمزية أيضا.

إنه مسار إبداعي موسوم بطابع نسائي خالص، كان من إوالياته رد الاعتبار للذات/ الأنثى في الظهور والتفكير وفي البوح والتعبير عن رغباتها ونزواتها وما يحيط بعالمها الأنثوي المتنوع، وذلك عبر وسيط اللغة المنسابة، قصصيا وشعريا. وبالتالي، منح الكتابة بعدها الجمالي والدلالي، الذين يضمنان لها التواصل والانتشار والبقاء.

لقد تنوعت التجارب الإبداعية، في القصة النسائية المعاصرة، وتباينت مداخلها وصيغها وإيحاءاتها، بحسب الجهد الفكري والنفس الإبداعي في تدبير شؤون الحكاية/ الحكايات، لغة وتركيبا وأسلوبا ودلالة. وهو ما يستدعي أكثر من وقفة للتأمل والمتابعة، لعل هذه المداخلة تشكل إحدى هاته الوقفات...

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق