U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

"أن تُـفـكِّـر في فـلـسْطـين" بين العيـن والـذّاكـرة


لعل الاقتراب من مضمون الرحلة ومن أسئلتها الكبرى، في الأدب العربي، هو اقتراب من العوالم الذاتية للكاتب. فالرحّالة سارد بامتياز، وكثيرا ما تحضر في سرده السيرة والتأريخ والحكاية واليوميات وما يرافق ذلك من إشراقات فنية تُحوّل المحكيّ، من نص تقريري مباشر إلى نص أدبي يحتفي بالمجاز والتخييل.

يطالعنا، في هذا السياق، الكاتب عبد الله صديق بإصدار تحت عنوان: "أن تفكر في فلسطين". وهو عبارة عن يوميات تندرج ضمن محكي السفر؛ غير أنه سفر لا كباقي الأسفار. إنها رحلة قصيرة في الزمن؛ غير أنها جديرة بالحكي والإنصات، أرادها الكاتب أن تكون يومياتٍ لسبعة أيام عاشتْ خلالها الذاتُ المسافرة ألقها الوجودي وحطت ركابها بأرض جاوزت بعدها الجغرافي إلى بعد رمزي وإنساني. يقول الكاتب: "أن تكون مغربيا، فأنت الأبعد غربا، الحامل في وجدانك أثرا من جينات موروثة عن أسلاف وصلوا إلى هنا، بعضهم مرّ، وآخرون مكثوا.. وابتنوا لهم بيوتا، تتابعوا حتى صارت البيوت المفردة حيّا، ينسب إليهم، هو (حيّ المغاربة)." (ص5)

وبذكر المغاربة والجينات الموروثة عن الأسلاف، ثمة استحضار لأفق عربي مشترك، لصلات ثقافية ممتدة في الزمان والمكان، جسدتها روابط المحبة بين البلدين في أكثر من مناسبة. فالحديث عن فلسطين مرتبط، ضرورة، بما تناقلته كتابات المؤرخين والسياسيين، في تقاربها وتضاربها، وبما أبدعته يراع الأدباء والشعراء من نصوص تحققت من خلالها، تواصلات الذات مع الآخر. 

"أن تفكر في فلسطين" بحث في معنى الوجود والهوية، ورحلة في الذات قبل أن تكون رحلة في المكان. ولتجسيد هذه الغاية، ارتأى المؤلف أن يجعل من يومياته العربية على أرض فلسطين رصدا توثيقيا لمرحلة عاشها بروحه ووجدانه، متوسلا، في هذا المحكيّ، بتقنية المَشاهد بما تختزله من تفاصيلَ دقيقةٍ تكشف عن حس مرهف وذائقة أدبية. فخلال كل يوم من الأيام السبعة، عرض تفصيلي لبعض الحالات والمواقف التي تكشف انطباعات الكاتب حيال ما يشاهده أو يعاينه بالبصر والبصيرة بل وكل ما يتهيأ له وأمامه. مشاهد متتالية ومنتظمة أخذت منه كل مأخذ.

ولا غرابة أن يحظى اليوم الأول، في هذا السفر، بنصيب الأسد من حيث عدد المشاهد. لقد كان اليوم شاقا على الكاتب، تنوعت محطاته بتنوع السياق والمقام. فثمة حواجزُ تقف مثل شوكة في الحلق، وجنودٌ ومراقبة وتدقيق في الملامح والصور والأوراق. وثمة انتظارٌ وتأخير متعمدان، وتفتيش ورعب وتهديد مقصود. وبين هذا وذاك، شعور بالنفور والاختناق وما صاحب ذلك، من أحاسيس تدمر الذوات وتمعن في إذلال العابرين. عشرون مشهدا كانت كافية لترصد بعض ما يجري في مناطق العبور المتعددة، قبل الدخول إلى فلسطين. كانت كافية لتظهر الوجه الحقيقي للمستعمر. يقول الكاتب: "الجميع هنا تحت سلطتهم وداخل لعبتهم التي لا تفهم منها سوى أنهم لا يريدونك هنا، أنتَ غيرُ الفلسطيني الداخل عبر الأردن، لا من تلّ أبيب.. لا يريدون أن تدخل وتخرج وأنت الشخصَ نفسه خاليا من الأعطاب.. يريدونك أن تحني هامتك... أن يطفئوا نور المشهد حتى لا ترى عيناك هذه الأرض التي تبدأ حدودها من هنا.." (ص16-17)

لعل في هذه الإشارة، وغيرِها، غيض من فيض الشعور الجارف بالانتماء للوطن العربي الكبير والخشوع النابع مما تحمله الذاكرة من سيرة المكان. فليس من رأى كم سمع، كما يقال.

لقد كانت لتجربةِ المعْبَر وظيفة أساس، توحدت خلالها الوفود العربية على كلمة سواء: المجد للوطن والنصر للإنسان. ذاك الذي يواصل المشي رغم الأشواك. ذاك الذي ينتمي لسلالة الشعب الحيّ، لأنه شعب لا يموت. فلسطين، في هذا الكتاب، لحظة اندهاش وانتعاش، اختبار للذات في بعدها الوطني والإنساني. يقول الكاتب: "لم أر من قبل جَمالا لأرض قاحلة جرداء مثل ذاك الذي كان يتراءى لي من خلف زجاج النافذة في الباص، جَمال عار من زخرف الطبيعة الذي تعودت حواسنا أن تشترط وجوده، كي تقول عن منظره: كم هو خلاب. جمال لا يتطلب وصفُه ألفاظا جياشة، هو جياش في ذاته. بقدر ما لا يغري العين بظاهره؛ بقدر ما يفيض أمامها بروحانية باطنة." (ص20).

"أن تفكر في فلسطين" هو إحساس شديد بالمكان وانغماس في تفاصيله الدقيقة، بما تضمره من حمولة حضارية وثقافية كبرى. لذلك ترى الكاتب لا يفوت مشهدا من المشاهد المتاحة أمام ناظريه، إلا تصيّدها بلغة شفيفة شاعرية تضفي على المكان جمالية مضاعفة. انشداد مبعثه أنها زيارته الأولى لفلسطين. وللمرة الأولى، كما يقول: "وحدانيتها الخالصة.." (ص26)

وتشتغل العين وتشتعل، حين يزور الكاتب مناطق متعددةً من فلسطين كانت بالأمس مجرد مساحات في الذاكرة وحكايات شفهية تروى، قبل أن تأخذه الدهشة بالمكان فلا يكاد يسمع ما يدور بين الرفاق ومنها رام الله. تلك المدينة التي تحمل اسم الجلالة محفورا على وجهها الصخري، ودخولها ينسيك أنك قد مررت من معبر لعين أو رأيت وجه الشيطان مرسوما على جدار. (ص25)

ولأن فلسطين تلبست بمخيلة الشاعر وشغلت دواخله فإن عينه الرائية ستفي بالغرض، حين يقتطع من زمن الرحلة حيزا لزيارة قبر محمود درويش . ولعل في استحضار هذا الرمز الشعري وهو يصدح بأعلى جرح في المحافل الشعرية، استحضار لما علق بالذاكرة من حب فلسطين ورغبة في رفع الحصار عنها، استحضار لمكانة الشاعر في قلوب المغاربة من مسرح الرباط إلى أبعد نقطة في البلد. استحضار لألق إنساني ما خان الشعر والوطن. يقول عين الكاتب: "في زاوية من زوايا المتحف لمحت حقيبته، فتذكرت مَقْتولتي التي ترقد جثتها الآن في غرفة الفندق مستريحة إلى الأبد من سفر واحد كان قصيرا، بينما التي أمامي بموديلها الخمسيني واصلت تصميمها على البقاء، لتعود أخيرا إلى هنا جنب مرقد صاحبها، شاهدة على أن الوطن ليس أبدا حقيبة..." (ص62)

هكذا، خلال كل مشهد من المشاهد المتبقية، يستحضر الكاتب زمنه المغربي ويقيسه بالزمن الفلسطيني. يتماهى مع سائر الأمكنة، سوقا كانت أم مقهى أم حديقة. يتابع سير الأحداث المتناسلة وما يترتب عنها من نتائج، ويراقب مواقف الأفراد والجماعات. أفراد وجماعات تواصل النضال ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، من خلال المراهنة على الأمل والفرح وإحياء الذاكرة الفلسطينية، في الفن والشعر والموسيقى وغيرها، دفعا للرتابة ورفع الحصار عن الذات. ولا غرابة أن يستشعر الكاتب هول التمزق الذي تعيشه بعض الفئات من الفلسطينيين، فلسطينيي الداخل مثلا.

ومثلما تحفل يوميات عبد الله صديق بذكر الوقائع والأحداث التي عرفتها الأرض الفلسطينية، على فترات زمنية متعددة، كبناء المستوطنات وتوطين اليهود وارتكاب المجازر وغيرِها كثير، مثلما يستحضر طفولته وما كان يسمعه من معلمه ذات تلمذة، عن فلسطين كاسم لم يستوعب معناه لحظة ذاك. ومن ثمة، اشتعال رغبة الكاتب في زيارة المكان المفكر فيه والحلم بتحريره كي لا يرى الليل في عيني معلمه مرة أخرى. وبهذا الفرح البطولي، تواصل العين تجوالها عبر الأمكنة ومنها فضاء المعرض للكتاب، حيث يتعرف الكاتب إلى الوجوه الجديدة ومنها وجوه الأطفال وما كان بينه وبينهم من حديث عن الكتب والأحلام التي تراودهم. وبهكذا تَواصلٍ، تنتعش العين مأخوذة بالمكان غيرَ عابئة بالزمن. وهنا، حُق للكاتب أن يستعير كلام محمود درويش حين يقول: "أنا الآن هنا" (ص55)

ولعل أجمل ما ستراه العين، في هذه الرحلة، حلولها بمدينة القدس وتمليها بسحر المكان وعظمته، بدءا بالسور الشاهق مرورا بفضاء التسوق ووصولا إلى قلب المدينة، حيث الدهشة الكبرى. يقول الكاتب: "في القدس، تمنيت أن أكون حجرا، عساي أنصت لما يهمس به لحجرٍ حجرُ.." (ص75)

ولم ينس الكاتب أيضا وهو يصاحب مثقفي فلسطين وأهلهم الإشارة إلى الحب الذي يكنونه للمغاربة وإلى الصيت الذائع الذي يلفهم حين يسمعون صوتا شعريا قادما من المغرب الأقصى وهو ما حصل عندما شارك إلى جانب شعراء عرب في الأمسية الشعرية بمبنى النادي الثقافي لعنبتا التي غصت بجمهور حضر قبل الموعد واحتل الكراسي التي فاق عددها المائة. 

هكذا، مع توالي الأيام، تلتئم المشاهد وتشد بعضَها ببعض كي ترسم فلسطين في حالاتها المختلفة، الإنسانية منها والاجتماعية، وتجعل منها كتابا مفتوحا "لا صفحة أخيرة فيه، حتى تنتصر الفكرة أو تحل القيامة، ويموت الجميع." (ص92)         

أخيرا، يمكن اعتبار يوميات "أن تفكر في فلسطين" تجسيدا لحلم راود الكاتب، كغيره من المغاربة، تمثل في رغبة جامحة لزيارة فلسطين. وحين تتحقق الحلم لم يتركه الكاتبُ يمرُّ مرّ الكرام؛ بل أراد منحه حياةً جديدة عبر التدوين والكتابة. هكذا عبر ثلاثة وخمسين مشهدا، بعناوين مفصلية دالة في هذا السفر/ اليوميات، تسترجع فلسطين عنفوانها ورمزيتها بين الأدباء وتؤكد بالملموس أنها لا تزال حاضرة في الوجدان المغربي، عينا وذاكرة. وصدق الإمام الشافعي إذ قال:

سافر تجد عوضا عمن تفارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب

إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن ساح طاب وإن لم يجر لم يـطـب

 ---------


تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
3 تعليقات
إرسال تعليق
  1. شرفت جدا بورقتك النقدية العميقة والحافلة بالالتقاطات اللماحة والنبيهة .. يجتمع فيك الناقد الالمعي والشاعر المرهف والمنشئ البليغ وذلك لعمري ما يجعل كتابتك رصينة ذات أثر.
    محبة لا تزول

    ردحذف
    الردود
    1. تحياتي الخالصة الأديب والشاعر عبد الصديق شهادة أعتز بها من خبير بالنقد والأدب

      حذف
  2. موفق دكتور تظل فلسطين ذلك الجرح الأخضر الذي يمس وجدان كل عربي تقديري لكم .

    ردحذف

إرسال تعليق