U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

عــيــنٌ عـلـى الفـكـر وأخـرى على الأدَب

 

ثمةَ رُموزٌ فكريّةٌ وإبْداعيّةٌ عديدة أسهَمتْ في إغناءِ المكتبة المغربيّة والعَربية، تجسّدت في شخصيّات نبغَتْ في مجالاتِ الفِكر والفلسَفة، وفي حقول الفَنّ والآدَاب. ولا نعْدمُ في مغربِنا الثّقافي نماذجَ أصيلةً تُجسّد الهُويّة الوطنيّة والإنسانيّة. وتحضُرنا، في هذا المقامِ شخصيةٌ من طراز رفيعٍ يُشهد لها بالبروز والتّفوّق، ويتعلق الأمر بالمفكر والأديب سَعيد بَنْسعيد العلوي.

لقدْ عُرف سَعيد بنْسَعيد العَلوي منشغِلا بالفلسفة، منغمسًا في أبعادِها التأمليّة وأسرارِها الفكريّة، بُغيَة فكِّ ما غمُض منها أو استعصى على الفهم والإدْراك. ومن ثمة، تجِدُه في سائر ما ألّفَ من كتبٍ نظرية، في الفكرِ والفلسفةِ والفقهِ والسياسةِ والتحديثِ والحداثةِ وغيْرِها، ينطلقُ من تحديدِ المفاهيم والمصطلحات، مُتوسِّلًا بمختلف المعاجم العربيّة والغربيّة، وبِما كُتب من مؤلفات في هذا المجال أو ذاك. وذلك كمرحلةٍ أولى، من قبيل العِناية ببعض المفاهيم، مثل الأنا والآخر، والتقدّم والتأخّر، والهُويّة والاختلاف، والوحْدَة والتعدّد.

لم تكن هذه المرحلة، في ارتباطِها باختبار المفاهيم وتحديدِ المنطلقات الموجِّهة لمجال البحث، بمنأى عن مرحلةٍ موالية تُراهن على التحليل والتأويل، وهو الأمر الذي اقتضى استدعاء ما يُناسب من حُجج علميةٍ حديثة، قوامُها القراءة النقدية الدقيقة، والتحليل المنهجي السليم، بلغةٍ تعكس مدى الوعْيِ بشروط الكتابة والبحث العلمي.

والواقع أن اهتمامَ الكاتب بالدرس الفلسفي وبقضايا الفكر العربيّ المُعاصر وأعلامه، بالإضافة إلى ما طَرحهُ من أسئلةٍ تمسُّ شؤون السياسة والديموقراطية، ومسألة الحداثة والتحديث، مردُّهُ نشأةُ الكاتبِ في وسطٍ ثقافيّ عربيّ أصيل، وجّهَ اختياراتِه البحثية وقاده نحو مُقاربة القضايا الكبرى، بعين القارئِ والباحثِ والنّاقدِ والمحلّل. نظرة لا تقفُ عند سطحِ الموضوعات؛ بقدر ما تسْبر أغوارَها بكثير من الحسّ المعرفيّ والمنهجيّ، وتشرك القارئ في أسئلتها وطروحاتها.

 

لقد ظلّ هاجسُ البحث العلمي عند سَعيد بنْسَعيد العَلوي، حاضرًا في سائر كُتبه الفكرية والفلسفية، بدءًا ب: "دولة الخلافة"، و"الخطاب الأشعري"، و"الفكر الإصلاحي"، مرورا ب: "الإيديولوجيا والحداثة"، و"أوروبا في مرآة الرحلة"، وانتهاء ب: "العدالة أولا"، و"أدلجة الإسلام بين أهله وخصومه"، بالإضافة إلى أعمال أخرى تمّت بالاشتراك. وفي كلّ عمل انبرى مرفوقًا بعددٍ من الإشكالات النظرية والأسئلة المعرفية. كما ظلّ إيمانُه متشبّثا، بضرورة الاهتمامِ بالتراث الفكري والأدبي، في بُعدهِ الماضَويّ، عبر تحْيينِه وتجديد قراءة نصوصه بوعيٍ تبصّريّ وحضور ذهنيّ، يستجيب لمتطلبات التفاعل والحوار بين الأنا والآخر.  

ولأنّ مجالَ الكتابة عند سَعيد بنْسَعيد العَلوي، لم ينحصِرْ في الانشغال بما هو بحثي وفكريّ محض؛ فقد انصرف مُحلّقًا إلى عالم الأدب، من خلال الحكْيِ الطويل المرتبطِ بحقل "الرّواية". لقد شكّلت هذه الأخيرة مشغله الثاني، يختبِرُ خلاله قدرته على المزاوجَة، بين مادّة فكريةٍ تقومُ على العقل والبرهان، ومادّة إبداعية تستند إلى الحُرية والتخييل، لغةً وبناءً ودلالة، ناهيك عمّا استحضره من انفتاحٍ على مختلف الأجناس التعبيرية الأخرى رَسمتْ رُؤيته للعالم.

ولعل العودة إلى الأدَب، في قدرته على مواجهة التاريخ المحكيّ، هو ما دفع بِسَعيد بنْسَعيد العَلوي إلى البحث عن منطقة وُسطى، تختزل جوابًا عن سؤال هو: كيف يتمُّ تحويل مادّةٍ تاريخية إلى مادّةٍ روائية؟ وهو ما اقتضى من الكاتب جهدًا مضاعفًا في القراءة والتمْحيص والأرشَفة، حتى بلوغ غاية التخييل وما يستلزمُه من عناصرَ ومكوناتٍ، تشكل أسّ البناء الروائيّ. ذلك أن كتابة الرّواية لا تكونُ من أجل الرواية؛ وإنما لتسجيل موقف أو تنبيهٍ على أمر، أو دعوةٍ لإدانة واحتجاج أو غير ذلك، مما يضفي على العمل مشروعية مزدوجة تجعل القارئَ أكثرَ قُربًا من تاريخِ المرحلة، وأكثرَ وعْيًا بأحداثِها وشخوصِها وموضوعاتها وأفكارها.  

وتبعًا لموسوعية الكاتب، وانهمامه بمجالاتٍ متعددة، فقد نظرَ إلى الإبداع باعتبارِه الجامعَ المانعَ للعلاقات الكائنة والممكنة بين تلك المجالات، فالرِّهانُ على الثقافة، بالمعنى الواسع للكلمة، أضْحى ضرورة ملحّة لتجديد الدّين وإصلاحِ الفكر، ونشْرِ الوعْيِ الديموقراطي، والحقّ في الاختِلاف. وهكذا كان لِزاما أن يتمّ توظيف بعضِ المفاهيم الكبرى أدبيّا، داخل محكيّ الرواية، ومن زاوية إبداعيةٍ لا إسقاطَ ولا تمحُّل فيها.   

بهذه النظرةِ الواسعة المُوسّعة، وهذا الأفقِ الإبْداعِيّ الرّحب، يمكِنُ أن نقرأ رواياتِه الخمس: "مسك الليْل"، و"الخديعة"، و"ثورة المريدين"، و"سبع ليال وثمانية أيام"، و"حبس قارة"، وأن نغوصَ في عوالمها المتشعّبة، بما حوَتْهُ من موضوعاتٍ مجتمعية وقضايا فكريّةٍ مختلفة، كالفقه السياسي، والتطرف الديني، والربيع العربي، والأدب الرّحلي، مثلا. موضوعات وجدت طريقَها إلى الرّواية، بما تقدِّمه هذه الأخيرةُ، من إمكانياتٍ للتّعبير عن الواقع في بُعديه الحقيقيّ والمتخيل. وما العودةُ إلى الماضي البعيدِ أو التراث الضّاربِ في عُمق الحضارة الإنسانيّة، سوى نزوعٍ نحو تحديثِ الأدبِ وتطويرِ الكِتابة الروائية.

هكذا، حين يستند بنْسَعيد العَلوي إلى التاريخ في كتابةِ الرّواية، فهو لا يُعيد كتابةَ التاريخ أو إعادةَ الإخْبار عنهُ كما هو؛ بل إنّه يبتغي إلى جانب ذلك، إعادةَ إحياءِ اللّحظة والنّبْش في تفاصيلها وتقاسيمها، بشكلٍ يمنحُ النصّ الأدبي/الروائيّ معنًى آخر، يستجيبُ للرؤية الإبداعية للكاتب.

ولعلّ في مثل هذه الرؤية الأدبيّة المنفتحة على العلوم والآداب والفنون، ما يسمَحُ بالكشف عن المناطق الخفِيّة واللامرْئِية في هذا المحكيّ التاريخي، وبالتالي الإسهام في قراءةٍ تقومُ على النّقدِ والتّأويلِ المشفوعين بالطّرح العلْمِيّ والدّقة المنهَجِية.

حين يُزاوج سَعيد بنْسَعيد العَلوي في مجال الكتابة، بين الفكري والإبداعي؛ فليس من قبيل المغامرة أو المجازفة، ذلك أنّ ما يجمع بين الحقلين هو أكثر مما يفرّق. كما أن هذا المنْزَع الكِتابيّ يقدم معرفةً، لا تخلو من إمتاع ومؤانسة. ومن ثمة، فقد تجِدُه يستدعي في مخبره العلمي، كل ما يسعِفُه من نظرياتٍ فلسفية ومناهجَ تحليلية، مثلما تجِدُه يستدعي في مشتله الرّوائي، كلّ الصور والمجازات والأخيلة مع ما يلزم من تطويع اللغة والارتقاء ببنية السّرد. وبذلك تذوبُ صِفةُ المؤرخ في تلابيبِ الأدب، وصفًا وحوارًا، ومشاهدَ ورؤًى مُتقاطِعة.

إنه، بعبارة، جنوح إلى معنًى لا يركنُ الى الفِكر الوحيدِ والأوْحَد؛ بل يُراهن على حرية التفكير وجمال التخييل. فالاشتغالُ باللغة مثلا، ظلّ مُسايرًا لطبيعةِ النصّ وشخصياتِه. كما أنّ العودة إلى الموضوعات المركّبة ضاعف حظوظ التلقي والتأويل. فلم ينحصر الهمّ في التوثيق التاريخي أو التصوير المباشر؛ وإنما في الالتقاط النبيه للجزئيات والتفاصيل.

أما عن البناء الفني لهذه الرّواية أو تلك، فإن الكاتب لم يُفرّط، في تكسير نمطها التقليدي بإضفاء عناصرَ مساعدة كالرمز والأسطورة والأمثال والأغنية. كما لم يفرّط في سلامة التعبير، وجودة التّصوير، وتوالي السّرد أو تقطيعه، انسجاما مع المقام ولحظة الكتابة، أكانت هذه اللحظة في الماضي أم الحاضر أم المستقبل.

هما عينانِ إذن. عينٌ على الفِكر وأخرى على الأدَب. بهما تشكّل مسارُ الكاتب سَعيد بنْسَعيد العَلوي. فقد راوحَ في منجزِهِ بين "الفكر" بأبعادِه المعرفية والنظرية التّأملية، وبين "الرواية" في شقِّها الإبداعي التخيُّلي، المنفتح على عوالم ومرجعيات مختلفة.

هكذا ترتسم صورة الكاتب، مفكرًا وأديبا مُبدِعا، من خلال ما قدّمه من أبحاث، لم تخلُ من تأمّل فلسفي، ولم تحِدْ عن سؤال وجودِيّ، يقتضيان معا توظيفَ العقل واستدعاء التحليل، العلميّ منه والمنهجي، أو ما نسَجه من نصوص روائية، استُثمِرت خلالها إحالات دينية وتاريخية وسياسية، إضافة إلى تناصّ أدبي وشعري، أبانَ عن وعيٍ كتابِيٍّ يجمع بين المُتْعة والفائِدَة.

------------------------

نشرت المداخلة ضمن الكتاب الجماعي "سعيد بنسعيد العلوي من نبع الفلسفة إلى ضفاف الرواية" إعداد وتنسق أحمد زنيبر وعبد الإله التهاني. منشورات منتدى أصيلة 2023

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. إضاءة مائزةأستاذي الكريم

    ردحذف
  2. بطاقة تقديمية لعلم من أعمدة الجامعة المغربية

    ردحذف

إرسال تعليق