يرتبط اسم حمادي التونسي بالمسرح والتمثيل
تحديدا. فهو أشهر من نار على علم، وبصمته بارزة في هذا المجال، خاصة بعد انتمائه
لفرقة الراديو والتلفزيون في عام 1954 ثم انضمامه لفرقة المعمورة في عام 1959.
غير أن اسم حمادي التونسي لم ينحصر موقعه في ما
سبق ذكره؛ وإنما تعداه إلى مجال الكتابة، شعرا وزجلا. فقد اعتبر واحدا من أولئك
الكتاب الذين أسهموا في إثراء الرصيد الشعري الزجلي بالمغرب، وخلفوا نصوصا تم
تحويلها إلى قطع غنائية لا يزال وقعها ساري المفعول في أذن المستمعين، سواء كانوا
من الجيل القديم أم الجيل الحديث، من بينهم الطيب لعلج، علي الحداني، عبد القادر
وهبي، فتح الله المغاري، ومن حذا حذوهم في التأليف الغنائي.
ولأن البعد الشعري في حياة حمادي التونسي ظل
مغيبا لأسباب متعددة، فقد عمد مصطفى الجوهري، من باب البرور والعرفان بالرجل، إلى جمع
نصوصه الشعرية المتفرقة في كتاب سماه: "ديوان الأغاني".
يعود بنا هذا الكتاب/المجموع إلى زمن عرفت فيه
الأغنية حضورا لافتا، من خلال ما كان يبث على أمواج الإذاعة والتلفزة الوطنية
وقتئذ. وهي جملة من الأغاني التي كانت ترتبط، في الغالب، بوجدان المغاربة على
اختلاف أعمارهم وتباين ميولاتهم. كما أن الحديث، في هذا السياق، عن الأغنية
المغربية لا يتم بمعزل عن البحث في الكلمات، لا من حيث قربها من الذائقة المغربية
وسهولة جريانها على اللسان، ولا من حيث تعبير شعرائها عن الهوية الوطنية والأبعاد
الإنسانية.
بهذا المعنى تشكل الأغنية، إضافة إلى كونها وسيلة
تعبير، وسيلة علاج أيضا، ضد القلق والتوتر والاضطراب النفسي، وفسحة للتأمل والانطراب،
لا سيما في ارتباطها باللحن والموسيقى، إذ تأثيرها على المستمع/ المتلقي يكون أكبر.
ولا شك أن تبرير هذا التأثير راجع أيضا للنص المكتوب (كلمات/ قصيدة) ولطريقة
الأداء (المطرب/ المغني).
وتأتي أهمية هذا الإصدار "ديوان
الأغاني" في ما يعكسه من تأكيد المسار الشعري الذي تبناه الشاعر حمادي
التونسي، وهو اختيار "العامية" أداة للكتابة الإبداعية، من جهة، وفي ما تزخر به المجموعة من أفق شعري مغربي
له ملامحه الفنية وخصوصيته الغنائية، من جهة ثانية.
يضم الديوان أكثر من مائة وخمسين قصيدة، تفاوتت عناوينها
بتفاوت الموضوعات وتباين حجمها بتباين البناء والإيقاع. واللافت أن الديوان جمع في
الكتابة، بين العامية والفصيح وبين المسرحية والموشحات، بذات النفس الغنائي. يقول
مصطفى الجوهري في تقديمه لهذا الديوان: "وقبل ذلك فحمادي التونسي شاعر غنائي
طوع قصيدة الزجل بكلماتها الوجدانية وتعابيرها الجميلة لتصبح قصيدة طربية معشوقة
لدى مختلف الشرائح" (ص5) وهو ما يفسر الشعبية التي حققتها هذه النصوص واتساع
تداولها بين الناس، لحظة التلقي، إن كلمات أو تلحينا وغناء.
للاقتراب أكثر من عوالم الديوان، يمكن أن نتوقف
عند بعض الملاحظات التي يمكن أن تشكل مداخل للقراءة والتحليل. وأولى هذه الملاحظات
انفتاح نصوص "ديوان الأغاني" على موضوعات الذات وقضايا المجتمع وتحولاته،
تفاعلا وانفعالا. انفتاح يرصد ثقافة الشاعر وذائقته الفنية. أما ثاني ملاحظة فمرتبطة
بكون هذه النصوص متفاوتة، بالنظر إلى طبيعة المحتوى والبناء المعتمد، فهي ليست على
وتيرة واحدة معجما وتركيبا ودلالة. فثمة نصوص في غاية البساطة، تقريرية ومباشرة
(ص34، 58، 72، 83)، حيث نجد تراكيب لا تحتاج كبير عناية للفهم والاستيعاب. ولعلها
قصدية تروم التواصل مع الآخر بأقرب لغة إلى الذاكرة والوجدان، مثل قوله في نص (عايش
وحدي) ص83:
عايش وحدي حزين..... وراضي
بالمقسوم
لا واحد قلبو حنين..... ينسيني
الهموم
كنت في الدنيا سعيد.... بقرب
الحبيب
اليوم صبحت شريد.... من غير
قريب
وهناك، في المقابل، نصوص بها لمسات فنية تأخذ
القارئ المستمع إلى حيز من عوالمها المتخيلة، يستند فيها الشاعر إلى شعرية اللغة
ومجازاتها التعبيرية. يقول من نص (لا تقولي وداعا)، وهو من النصوص الفصيحة، ص102:
لم أنس وكيف أنس ذكرياتي.....
عشتُها بقلبٍ كان نشوانا
كيف أنس الروضَ مرتعَ حبي.....
قبلةَ روحي مهدَ لقانا
يوم كنا أغنيةَ الحياةِ......
ولحنا يتغنى به اللسانا
عودي لمن صادق الحبَّ..... فعلى
العهدِ ما زال مُصانا
وفي هذا الشاهد إشارة إلى إحدى الموضوعات التي
تهيمن بشكل لافت على نصوص المجموعة في الديوان وهي موضوعة الحب، إلى جانب موضوعة
الوطن والطبيعة والأسرة والذاكرة وما سواها. ولعل هذا التنوع في الموضوعات
والقضايا التي شغلت فكر الشاعر رام من خلالها ملامسة الإنسان وتحولات المجتمع المغربي
خاصة، بالإضافة إلى قضايا العروبة عامة ومنها قضية فلسطين تحديدا. وهو الالتفاف الموضوعاتي
الذي جاء متناغما والروح الغنائية التي أسكبت فيها. غنائية توسلت ببعض المظاهر البلاغية
والتجليات البديعية من تصوير وجناس وطباق وتوازيات صوتية وغيرها.
ثالث ملحوظة، في الديوان، تمس طبيعة المعجم الذي
وظفه الشاعر، فقد حرص على تجنب استعمال الألفاظ والكلمات الغريبة المستعصية على
النطق والفهم، وارتضى بساطة لم تفرط في جمالية المعنى والمبنى. لذلك يصادف القارئ من
نص لآخر بعض التعبيرات الفنية على مستوى الأسلوب والتركيب. كما في قطعة رومانسية وصفية
يستحضر فيها الشاعر الطبيعة وأجواء مدينة إفران (ص130):
يا حسرة على ديك الأيام.....
تحت الأشجار فغابة يفران
جينا حداكم ودكِّينا لخيام.....
وتعارفنا وصبحنا جيران
وفي كل عشية يجيوْ احبابي
واحبابك
حدا الشلال كانو يتنزهو جميع
وأنت حادرة عينيك وتطالعي كتابك
وأنا بعودي هايم فلحن بديع
وفي ذات الأجواء الرومانسية يتغنى الشاعر بالطبيعة
وبفعلها السحري على المستمتع، مثلما نجد في قطعة (فصل الربيع) ص75 يقول فيها:
فصل الربيع بان اعلامو..... يته
في دلالو نشوان
فصل الربيع شرح احلامو..... لكل
قلب فاني ولهان
لونو الأخضر يحي الروح.......
ويعيد للقلبَ آمالو
يشفي كل عليل من لجروح....
وينسيه كل ما في بالو
أو مثلما نصادف في قطعة قبلها يتغنى بالمرأة لكن
في صورة وردة تفوح عطرا وجمالا، يخشى عليها الشاعر ويخشاها في ذات الآن، يقول:
(ص71)
كل واحد تمناها...... تكون
عروسة فبيتو
غِـر ينظر لبهاها.... وتعيد
للقلب حياتو
لكن شوكها ماضي
وقلبي ما عليه راضي
خفت نقطفها... كِـف مشاو
غيري... وتقام غالية عليا
خفت نشمها... وتفوح اخباري...
وتمشي هايم هدية
وبين هذا النص أو ذاك، يصادف القارئ معاني ودلالات جديدة، تصف حالة الذات العاشقة، بين ارتياح
وانقباض. ففي الحالة الأولى نستحضر لها قطعة (جواب حبيبي) حيث الاستعانة بأجواء
الطبيعة وحالاتها المشابهة لحالات المحب الولهان في التعبير عن لحظات الانتشاء
بالقرب والفرح، يقول: (ص39 غناء إسماعيل أحمد)
نسيم الليل يسري.... يلَحّن لي كلامو
نجوم الليل تدري.... تفسر لي
احلامو
طيور لْغات لْغاها.... وفرحت
لفراحي
زهور فاحت شذاها... ولمت اجراحي
أما في الحالة الثانية، فيمكن أن نستدعي لها قطعتين:
إحداهما بعنوان: (كان قلبي خالي) ص63، من غناء المعطي بنقاسم، حيث التعبير عن
الإحساس بالوحدة والحزن والاغتراب، يقول:
بالي تاه بنظرة.... من عيون
جميلة
قلبي ذاب في حسرة.... من رموش
كحيلة
طيفو الغالي محيرني... ما بقى
يهنيني
دايما في بالي متيهني....
والنوم مجافيني
قلبي فحبو مجروح... ودوا جرحي
في عينيه
يبات يشكي وينوح.... من كثر حبي
إليه
والقطعة الثانية بعنوان: (يا أهل الهوى) ص178-179،
من غناء عبد الوهاب الدكالي. يدخل فيها الشاعر في حوار مع مخاطَبه علّه يجد لورطته
مخرجا وسبيلا. يقول:
وضعت فيه شُفت الغالية....
وخليتو حر يطير ويعلي
يحوم فوق لعراسي العالية....
وبهيج شوقو لْوكـرُ ويولي
لكن المكتاب ما معاه هروب... واللي
ضرباتو يدو ما يبكي
حلق وعلا وهجرني المحبوب... من
غيركم يا أهل الهوى لمن نشكي
يا أهل الهوى
هكذا نجد في كثير من النصوص الزجلية لحمادي
التونسي، نفسا شعريا وغنائيا يرتبط بوجدان الذات الشاعرة، بما فيه من التفاف حول حقول
معجمية مختلفة يستقي منها مادته الشعرية والتخيلية من حقل الطبيعة والذات بعوالمها
الباطنية والخارجية حيث الحواس بأنواعها، مثل النظر والسمع واللمس والذوق والشم أو
ما يحيل إليها بصورة غير مباشرة.
ولأن الشاعر منشغل أيضا بأحوال الناس وبانتقاد
بعض سلوكياتهم المرضية، يوجه في إحدى قصائده في اتجاه ذاك الذي ينقل الأخبار ويشعل
النار بين الأحباب والأصحاب. يقول: (ص93)
ياك يا الظالم ياك..... آش عملت
باش توصل اخباري
شفت عدياني ياك...... ولات
الناس تحكي اسراري
غر سر بلا ما نعاديك.... دابا
ربي يجازيك
يا وصال لخبار
كما لا يخلو الديوان من احتفالية بالعلاقة
الأسرية من خلال التشديد على أهمية الرابطة الزوجية، مثلما نقرا في نص جميل بعنوان:
(الزوج المثالي أو مولات الدار ) ص137-138، من غناء محمد الإدريسي. وهو عبارة عن
حوارية بديعة بين الزوج وزوجته:
(للا مولات الدار... اعمارت
الدار..).
وصلة بهذا البعد الغنائي ثمة قصيدة دينية تتردد في
كثير من المناسبات الدينية والأفراح العائلية بعنوان (المدد يا رسول الله)
ص135-136، من غناء إسماعيل أحمد، مطلعها:
الشوق حرقني... لزيارة مقامك
يا عريس القيامة
يا سيد الوجود
الصبر هجرني.... ودوايا في
رياضك
نقبط الشبيك.... يا حبيب
السلامة
ونمرغ لخدود.... نهار الموعود
المدد المدد يا رسول الله....
المدد المدد يا حبيب الله
ففي هذا الاحتفاء الروحي والرمزي بسيد البشرية
والشوق لزيارة مقامه الشريف، ما يعمق الحضور القيمي والديني لدى المغاربة عامة.
فقد لقيت هذه الأغنية رواجا وإقبالا واسعا جعلها من الأغاني الخالدة في
الريبيرتوار الغنائي المغربي.
ولأن بعض قضايا المجتمع شغلت فكر الشاعر، ومنها
التحولات التكنولوجيا التي عرفها المغرب في مجا الاتصال، فقد خص إحدى هذه الوسائل
بقطعة بديعة تقوم على الحوار، بعنوان: (التلفون) ص67-68، من غناء أمينة إدريس
وإسماعيل أحمد، جاء فيها:
هذي ساعة ونا غادة جاية.... هذي
ساعة وبالي ما معايا
نتسنى التليفون من عند حبيبي....
يهنني ويطفي نار قليبي
عمل معايا لحداش.... وهذي
الساعة التناش
عالم الله آشنو مالو.... عالم
الله آشنو جرى لو
آلو آلو ...
وهي أغنية لا تزال تحافظ على جماليتها الإيقاعية
وحسها الرومانسي. أما نصوصه في المجال الوطني فكثيرة تغطي مساحة كبرى من الديوان.
ولعلها موضوعة شعرية أخرى.
..................................................................................
+/ ورقة تقديمية في "ديوان الأغاني" من
تنظيم جمعية رباط الفتح للتنمية المستديمة بالرباط
نشرت الورقة بالملحق الثقافي لجريدة العلم، يوم الخميس 13 نونبر 2025


نسي الكاتب أغنية يالغادي فطوموبيل التي غناها عبد الوهاب الدكالي.
ردحذف