U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

السلوك المدني والتربية على القيم

  

السلوك المدني والتربية على القيم

شكلت المنظومة التعليمية ببلادنا، ولا تزال، إحدى المجالات الحيوية التي لقيت اهتماما بالغا من لدن المهتمين والمشتغلين بالتربية والتكوين. فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي انخرطت الوزارة المعنية في جملة إصلاحات وأوراش كبرى رامت خدمة البلاد والصالح العام، من جهة، ونصرة المتعلم وجودة التدريس، من جهة ثانية. ولعل القضايا الكبرى التي أثيرت، آنذاك، كالتعريب والتعميم والمغربة والتوحيد، تعد أكبر شاهد.

 غير أن التعثر والتذبذب اللذين صاحب تلك الطموحات المعلنة أعادت التفكير، من جديد، في المسألة التربوية، وبات الأمر ملحا، أكثر من أي وقت مضى، لبذل المزيد من الجهود قصد تخطي العراقيل، التي تقف حجر عثرة أمام مستقبل البلاد وتقدمها وتنشيط الحياة المدرسية وتجددها.

ونظرا للتطور السريع الذي عرفه المجتمع المغربي والوتيرة المتنامية، التي ميزت عوالمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذا الحضارية، لم يعد أمر الإصلاح التعليمي مقتصرا على جهة بعينها؛ وإنما امتد ليشمل المجتمع برمته، حكومة وبرلمانا وجماعات محلية وأحزابا سياسية ومنظمات نقابية ومهنية وجمعيات وإدارات ترابية وعلماء ومثقفين وفنانين وشركاء فاعلين في القطاع وغيرهم، حيث انخرط الجميع في صياغة برنامج إصلاحي شامل يستهدف النهوض بالمنظومة التعليمية، شكلا ومحتوى، جاعلين مصلحة البلاد ومصلحة التلميذ فوق كل اعتبار.

ومن ثمة، كان إنجاز مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين في أكتوبر 1999 أحد الرهانات الكبرى للإصلاح والتغيير، تمتد لعشر مواسم دراسية، دون التفريط في المكتسبات السابقة أو الإخلال بالمرتكزات الثابتة للدولة.

فماذا عن السياسة التربوية، التي انتهجتها الجهة المعنية لتمرير مشروعها الإصلاحي؟ وما الوسائل المادية والبشرية، التي احتكمت إليها أثناء عملية الإنجاز؟ وبالتالي، إلى أي حد يمكن الحديث عن نجاح مستحق للمشروع، في ظل الإكراهات الكثيرة والمعيقات الكائنة والممكنة؟

لقد حرصت الوزارة، منذ انطلاق العشرية الوطنية للتربية والتكوين 2000-2009 كأسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية، على تتبع مختلف العمليات والمراحل المتعلقة بتطبيق مقتضيات الميثاق، ومنها طبعا تحسين جودة التعليم وتحسين البرامج والمناهج وتجديد المدرسة وفق الشروط والإمكانيات المتاحة. وهكذا، تفعيلا للميثاق الوطني للتربية والتكوين وترسيخا لمبدأ الشراكة والفكر الجماعي كانت ترفع شعارات قوية عند مستهل كل سنة دراسية، كتحسين الخدمات الداعمة للتمدرس أو الارتقاء بجودة التعليم أو التربية على المواطنة وحقوق الإنسان، مثلا أو تشجيع ثقافة الامتياز. وكلها شعارات متصلة وإن بدت منفصلة، تتوجه بالأساس إلى كل متعلم ومتعلمة في علاقته أو علاقتها بالأسرة والمجتمع، وذلك بهدف جعلهما (ذكرا وأنثى) مواطنين صالحين ونافعين للبلاد والعباد. وما شعار هذه السنة: "الأسرة والمدرسة معا من أجل ترسيخ السلوك المدني" سوى واحد من تلك الشعارات الرامية إلى ترسيخ علاقة واضحة بين الأفراد والجماعات تنبني على احترام الحقوق والواجبات.

فما المقصود بالسلوك؟ وما معنى أن يكون السلوك مدنيا؟ وماذا يراد بالقيم؟ بل ما علاقة كل هذا وذاك بالأسرة والمدرسة والمجتمع؟

السلوك لفظ من معانيه السيرة والمذهب والاتجاه. يقال: فلان حسن السلوك أو سيء السلوك. وما دام السلوك مرتبطا بالإنسان في مواقفه وأفعاله؛ فإن صفة المدني مرتبطة بالتحضر والمدنية في مقابل سلوك قبيح مردود أو أفعال همجية. أما القيم فمن الاستواء والاستقامة. وحاجة المجتمع إليها كحاجته إلى الماء والهواء. ولعل من أهم تجليات السلوك المدني ما ظهر في احترام الغير والاعتراف بالرأي الآخر والوعي بالحقوق وبالواجبات والتشبث بالقيم السليمة كالعدل والتسامح والتضامن ونبذ العنف والخلاف والدعوة إلى العمل والمشاركة في الحياة العامة... وغيرها من المظاهر والتجليات، التي يمكن تلقيها بنسب متفاوتة في المدرسة كما في البيت والشارع.

فكيف إذن، تدمج المقررات الدراسية مفهوم السلوك المدني في برنامجها التكويني؟ وكيف تكرسه كنشاط تربوي في العملية التعليمية التعلمية؟

لا أحد ينكر، من المهتمين بالشأن التربوي، ما للكتاب المدرسي من أهمية بالغة في الدرس والتحصيل، باعتباره وسيطا بين المعلم والمتعلم، من جهة، وبوصفه وثيقة تربوية تحمل مشروع مؤسسة رسمية، من جهة ثانية. لذلك، كان التعامل مع الكتاب المدرسي وضمنه الإلمام بالبرامج والمناهج أمرا مطلوبا لقياس مدى التوافق والانسجام بين الوسائل الممكنة وبين الأهداف المعلنة.

وهكذا، حينما نتصفح الكتب المدرسية المبرمجة في الأسلاك التعليمية الثلاثة: (ابتدائي، ثانوي إعدادي وثانوي تأهيلي) نتلمس التعدد والتنوع الحاصلين على مستوى التأليف التربوي، تصورا ومنجزا. ولا شك أن لنظام المجزوءات في وضع المنهاج، ونخص هنا منهاج اللغة العربية، كبير الأثر في تمرير الخطاب التربوي وتنفيذ مقترحاته. فكل مجزوءة من المجزوءات المقررة لكل فصل دراسي، تشمل قيمة من إحدى القيم الإنسانية المراد معالجتها وترسيخها كسلوك تربوي لدى المتعلم. ولعل من أبرز هذه القيم ما تعلق بالقيم الإسلامية والوطنية والاجتماعية والحضارية وكذا الاقتصادية وغيرها. كما أن كل مجزوءة تستهدف غاية تربوية محددة، من ناحية، وتترصد إحدى الكفايات المسطرة، قرائية منهجية أو لغوية أو تواصلية تعبيرية، من ناحية ثانية. وبين هذه الغاية وتلك الكفاية أساليب متنوعة ومختلفة للدعم والتقويم بأنواعه.

وفي هذا السياق تحضر النصوص المصاحبة لهذه القيم المرجوة (نظرية كانت أم تطبيقية) لتثبيت التعلمات وفقا لطبيعة المتعلم وتبعا لنوعية محيطه السوسيوثقافي. فكثيرة هي النصوص، التي تراعي التوجيهات الرسمية حين تخدم برنامج السلوك المدني وترسخه في شتى مراحل الدراسة والتكوين. فثمة السلوك الذي يمس الفرد وثمة السلوك الذي يطال الجماعة. وبين الفردي والجماعي شبكة من المحفزات الساعية نحو إقامة مجتمع صالح جدير بأبنائه ومتعلميه. ولنا في عناوين العديد من النصوص ما يؤكد هذا المنحى البيداغوجي، نحو عناوين: من قيم الإسلام، من أجل مجتمع أفضل، تواصل الثقافات، المرأة والتنمية، سلوك مدني، حقوق الطفل، درس في الوطنية،،، وغيرها من العناوين المشابهة.

وما يقال عن النصوص المختارة في الكتب المدرسية، المصادق عليها من لدن الجهات الرسمية، يقال أيضا، عن الصور والرسوم المصاحبة لها. فجلها إن لم نقل كلها، تشير، تلميحا أو تصريحا، إلى السلوك المدني المراد ترسيخه لدى المتعلم، سواء أكان صورة فوتوغرافية أم لوحة تشكيلية أم رسوما كاريكاتورية أم غير ذلك. هذا دون  أن ننسى طبعا، تلك الأنشطة الموازية والأسئلة المرافقة لكل نص على حدة، قصد استثمار المعلومة وتثبيت السلوك المستهدف، داخل وخارج الفصل الدراسي.

بيد أن الحديث عن النصوص أو الرسوم أو طرائق التحليل المقترحة، لا يتم بمعزل عن الحديث عن دور المدرس كفاعل ومنشط تربوي. فهو من تسند إليه وظيفة التلقين والتوصيل بطرق بيداغوجية تقوم على الفهم والإفهام، بتعبير الجاحظ. وكلما كان سلوك المدرس سليما ومثاليا كان وقعه على سلوك التلميذ المتعلم طيبا وإيجابيا. ومن ثمة، لا ينبغي أن نستهين بدور المدرس في عملية نقل السلوك المدني وترسيخه بما وسعه من طرق وأدوات وتقنيات خاصة، في صفوف المتعلمين، من خلال أمثلة وشواهد متباينة يدعمها الحوار والنقد البناء.

إن تنوع طرائق المدرس في تقديم الأنشطة التعليمية بحسب الفصل الدراسي ومستوى مدارك التلاميذ يعد مدخلا أساسيا لا غنى عنه لضمان نجاح مرتقب أكيد. كما أن استحضار أنشطة المؤسسة الثقافية والرياضية والفنية وغيرها، كتجليات موازية لأنشطة القسم ضرورة وتحصيل حاصل. لكن هل تستطيع المدرسة وحدها مقاومة الجهل وترسيخ القيم؟ وإلى أي حد تستطيع الثبات والصمود، في ظل الإكراهات الموجودة والمثبطات المفاجئة؟

إذا كان بالإمكان اعتبار المدرسة مجتمعا مصغرا تلتقي فيه أنماط من الفئات الاجتماعية وتلقن داخله ألوان من المعارف والقيم، ودورها أساسي؛ فإن دور الأسرة، هي الأخرى، لا يقل أهمية عن دورها. فهي بمثابة حقل تجريبي للسلوك المدني، وبدون تعاونها وتظافر جهودها مع المدرسة لا يمكن للمنظومة التعليمية، بحال من الأحوال، برامج ومناهج وغيرهما، أن تسد الخصاص وتملأ الفراغ أو تواصل المشوار وحيدة فريدة. فكلاهما يكمل الآخر وبهما معا تدعم القيم المشتركة.

ومعناه، أن أمر التعليم، كما ألمحنا سلفا، لم يعد مقتصرا على المدرسة أو الوزارة وحدها؛ وإنما أصبح شأن الجميع. شأن الأسرة وشأن المجتمع المدني قاطبة، جمعيات ووسائل إعلام وغيرهما، ما دامت الغاية واحدة تسعى إلى وضع المتعلم، تلميذ الغد في وضعيات تنمي لديه اتخاذ الموقف المناسب للسلوك المناسب، كاحترامه للذات والوطن والآخر واحترامه للحقوق والتزامه بالواجبات وكذا مساهمته في الإصلاح والبناء، عبر المشاركة والمبادرة.

إنهما بعبارة، وجهان لعملة تربوية واحدة، تتغيا بناء مجتمع سليم ذي قيم إنسانية وكونية نبيلة، تتعايش أفراده وتتواصل في ظل الاحترام المتبادل. فهل يتحقق هذا المسعى الطموح؟ وهل يكفي تعديل أو تغيير البرامج والمناهج لإصلاح الوضع التعليمي؟ وكيف للمتتبع أن يسلم بوجاهة المضامين والشعارات المعلنة؟ تلك بعض من أسئلة كثيرة، لا ريب أن انتظار اكتمال العد القانوني للعشرية المقترحة كفيل بالرد عليها.

+/ إحالة: نشر المقال في مجلة "الحياة المدرسية" العدد9 السنة 2007 

 


تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق