U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

ســـلا: ذاكِـــرةٌ وامـتِــداد


تشكّل مدينة سلا جزءاً أساسياً من حضارة المغرب الكبرى، بالنظر لما توافر فيها من إمكانات طبيعية وجغرافية وبشرية متنوعة، فثمة البحر والنهر والغابة والمآثر والعمران وثمة الطقوس والفنون والعادات. ولعل هذا التنوع والثراء هما ما جعل منها مدينة تجمع بين التاريخ والتراث والسياحة والثقافة، مثلما جعلا منها مدينة ملهمة للشعراء والفنانين والأدباء. وليس من قبيل المصادفات أن يرتبط ذكرها بالأبواب السبعة وبالقراصنة والجهاد البحري وبالأولياء والصالحين، كما يرتبط ذكرها بموكب الشموع وبالحرف والصناعات التقليدية.


مدينة سلا من أقدم المدن المغربية، التي تختزل تاريخاً حافلاً بالأحداث والوقائع. يشهد بذلك، ما تركه الفينيقيون والرومان من آثار دالة على حضارتهما وتمركزهما بالمنطقة ما بين القرنين السابع والثالث قبل الميلاد. كما أن موقعها الساحلي على المحيط الأطلسي وجوارها لنهر أبي رقراق جعلاها تحتل مكانة مرموقة لدى العديد من الدول التي تعاقبت عليها، بدءاً من الأدارسة والمرابطين، مروراً بالموحدين والمرينيين والسعديين ووصولا إلى عهد العلويين.  

أما النشأةُ فتعود إلى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، حين قدمت إحدى الأسر الأندلسية، تدعى «أسرة بني عشرة» واستوطنت في البداية بموقع شالة الأثري، ثم استقرت بالمدينة، لسنوات، على ربوة تسمى «الطالعة». ومنذ ذلك الحين شرع بنو العشرة في تشييد مجموعة من البنايات والفنادق والقصور والبساتين إلى حين قدوم المرابطين. وخلال فترة المرابطين وما بعدها ظلت مدينة سلا صلة وصل بين عدد من المدن والدول ونقطة عبور بين منطقتي الشمال والجنوب. كما حجّت إليها أسر وعائلات تتحدر من أصول عربية وأمازيغية وأندلسية، ما جعل منها مدينة ذات نسيج اجتماعي متفرد يمزج بين طبيعتين: حضرية وبدوية.

لقد اعتبرت سلا معسكراً للدولة الحاكمة ومركزاً تجارياً لها تارة، ومرسى للجهاد والقرصنة إلى حدود 1817 تارة، كما اعتبرت موطناً للعلماء والأولياء تارة أخرى. لذلك، نجد عدداً من المؤرخين والأدباء قد أولوها كبير العناية بالكتابة عنها والتأريخ لها من أمثال محمد بن علي الدكالي، وأحمد الناصري والولي الصالح أحمد بن عاشر، والشاعر لسان الدين بن الخطيب، وغيرهم.

عاش في سلا عدد من الأسر المحافظة والعائلات الشريفة، التي ارتبط ذكرها بنسب الأولياء والصالحين، كما سكنها عدد من العائلات القادمة من الأندلس، بما تحمله معها من مرجعيات دينية وحضارية مميزة. ونجد في الطليعة أكثر من عشرين عائلة، منها: الصبيحي، حجي، اشماعو، معنينو، زنيبر، المريني، القادري، بنسعيد، السمار، بن خضرا، الحسوني، العلوي، فنيش، الناصري، عواد، حصار.

ولعل التعايش الذي حصل بين هذه الأسر انعكس إيجاباً على تاريخ المدينة وبناياتها، حيث الحضور الفعلي للنمط العربي الإسلامي، وللنمط الغربي، بشقيه المسيحي واليهودي. فثمة حي بسلا يطلق عليه حي المَلاّح، نسبة إلى الأسر اليهودية التي عاشت بالمنطقة، وكذا حي الرّمل نسبة إلى الساكنة الفرنسية. وقد أضفى هذا التمازج الاجتماعي والعمراني، على ساكنة المدينة ودورها التقليدية، طابعاً تراثياً وجمالياً تتنوع فيه اللغات وتمتزج فيه الثقافات. 

تميزت مدينة سلا بتنوع ساكنتها، المحلية منها والوافدة، كما تميزت بغنى تراثها الحضاري مجسداً في الأسوار والأبواب والأبراج والقصور والقصبات والمدارس والزوايا والأحياء والأسواق والمساجد. فمن أقدم المساجد نجد المسجد الأعظم، قلب المدينة النابض، ويعرف بالجامع الكبير، الذي شيد في العهد الموحدي، مكان الجامع الذي بناه بنو العشرة، فوق مساحة تزيد على 5000 متر مربع، كان محج العديد من كبار الفقهاء الذين تعاقبوا على التدريس به. وأول من ولي الخطبة فيه الفقيه أبو محمد عبد الله بن ياسين الأنصاري قاضي مدينتي سلا ورباط الفتح. فيه تقام صلاة الجمعة وتلقى الدروس وتقرأ الأوراد ويتلى القرآن. بنيت منارته في زمن السلطان العلوي عبد الرحمن بن هشام وعرفت توسيعات شملت مختلف مرافقه الداخلية. 

كما نجد المسجد الذي شيد في العهد المرابطي، وهو ثاني مسجد بالمدينة ويعرف باسم مسجد لالة الشهبة، الذي تم اكتشاف معالمه في بداية القرن العشرين وأعيد ترميمه في أواسط القرن نفسه. 

أما أسوار المدينة الضخمة فممتدة من المحيط الأطلسي إلى نهر أبي رقراق، على مساحة يتجاوز طولها أكثر من أربعة آلاف متر، وشكلت حصناً منيعاً لساكنة سلا. وأهم هذه الأسوار العتيقة، سور الأقواس الذي يربط بين حي المكينسية وحي سيدي موسى، حيث شيد في عهد الموحدين وجدد في عهد السلطان أبي الحسن المريني. وهو عبارة عن قناة مائية محمولة على طول يبلغ أربعة عشر كيلومتراً، انطلاقاً من عين البركة بمنطقة بوقنادل في المعمورة حتى بلوغ منطقة باب شعفة حيث مكان تجميع المياه، ليتم توزيعها على أحياء المدينة عبر شبكة قواديس تحت أرضية. ويعد هذا السور من المعالم الأثرية، التي تشهد على حضارة الدولة ودورها في خدمة البلاد والعباد. يشتمل سور الأقواس على ثلاثة أبواب ضخمة تمثل جزءاً أساسياً من شارع محمد السادس حالياً، الذي يربط بين اتجاهين معاكسين، أحدهما في اتجاه مدينة الرباط والآخر صوب مدينة القنيطرة.

أما الأبواب الحجرية، فقد ارتبطت بأسماء بعض المدن والأماكن، منها باب سبتة، وهو أقدم باب في المدينة، ويرجع بناؤه إلى عهد المرابطين. جدده القائد عبد الحق فنيش، وأضاف إليه بُرجاً محادياً اتخذه مقراً إدارياً له، ثم باب فاس الذي يشكل مدخلاً للمدينة من جهة الشرق، ويعرف أيضاً بباب الخميس. رُمم هذا الباب مرات عدة وجُهز فضاؤه في عهد الحسن الثاني خلال زيارة ملكية للمدينة سنة 1992. أما باب المريسة، فهو أكبر وأعلى باب في المدينة، وبني في العهد المريني. يبلغ طوله ثلاثين متراً وكان مخصصاً لخروج السفن الحربية، المشيدة داخل دار الصناعة، نحو المحيط الأطلسي عبر قناة نهر أبي رقراق. يدعم هذا الباب برجان مستطيلان، ويمثل صلة وصل بين داخل المدينة وخارجها.   
هناك أبواب حملت أسماء بعض الأعلام والصلحاء، منها باب سيدي بوحاجة، نسبة للأندلسي إبراهيم بوحاجة الرندي، الذي عينه السلطان أبو عنان المريني شيخاً لزاوية النساك، لتكون فضاء يأوي الفقراء والتجار وعابري السبيل وإقامة لرجالات التصوف. وهناك أبواب أخرى مثل باب شعفة وباب احساين وباب قرطبة وباب عنتر وباب الجديد. كل باب يختزل تاريخاً حافلاً بالأمجاد والحكايات.

أما الأبراج فكانت دعامة لتلك الأسوار، منها برج الدموع الذي يعتبر من أعظم الأبراج شكلاً وارتفاعاً واتساعاً. بني في العهد المريني من الجهة الغربية، بين ضريح سيدي أحمد بن عاشر وضريح سيدي الإمام، وأصلح في عهدي السلطان محمد بن عبدالله والسلطان الحسن الأول، بالإضافة إلى برجين، هما: البرج الركني والبرج الجديد، بنيا في عهد السلطان مولاي عبدالرحمان. يجاور البرجين باب المعلقة الذي يطل على البحر ومقبرة المدينة العتيقة.

وبذكر الأسوار والأبراج تحضر القصَبات لما لها من صلة بالسكن والاستقرار، منها القصبة الإسماعيلية، وتعرف أيضاً باسم قصبة كناوة، التي شيدها السلطان مولاي إسماعيل بجوار البحر، على مساحة تقارب 7000 متر مربع، ولها مدخل واحد وستة أبراج، إضافة إلى مسجد وسكنى لأفراد الحامية من عبيد البخارى. اعتبرت هذه القصبة قلعة لتجميع الجنود المغاربة المشاركين في الحروب وفي الحركات المخزنية، واستمرت عامرة قرابة ثلاثين سنة. توجد القصبة قرب ضريح الولي الصالح سيدي موسى على شاطئ المحيط الأطلسي. 
ومع توالي الغزوات والحروب، قبل وأيام الحماية، بنيت بعض الدور لتكون محلاً لصناعة السفن والمراكب الحربية، للمشاركة في الحروب الجهادية بشواطئ الأندلس، منها دار الصناعة ودار البارود اللتان شكّلتا مستودعاً لتخزين الأسلحة والبارود.

عرفت دار البارود باسم دار الباشا، بعدما تحولت إلى سكن للمقيم العام لمدينة سلا، وبعدها بسنوات تحولت إلى معهد لتعليم الموسيقى ثم إلى نادٍ نسوي. وبعد تحويل المعهد في الآونة الأخيرة إلى منطقة حي السلام، بدأت أشغال الحفر والهدم بقصد تحويل الدار إلى مركب ثقافي، غير أنه خلال عملية الحفر، اكتشف ما يناهز الثلاثين فرناً لصناعة الخزف، علاوة على عدد من القطع الخزفية والأدوات المستعملة في صناعتها، منها ما يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي. وهو ما يجعل من هذه الدار، بتعبير رئيس جمعية سلا المستقبل إسماعيل العلوي، معلماً تاريخياً بامتياز يستدعي مزيداً من النبش في ما خفي بداخلها، وصيانة ما تم العثور عليه من ثرواتها، بالإضافة إلى عدد من المتاحف الأساسية كمتحف دار بلغازي بحي بوقنادل ومتحف الفخار بمنطقة الولجة، الذي يعد قبلة للسياح وموئلاً لعشاق المنتوجات الخزفية.

عرفت سلا أيضاً بمدينة الأولياء والصالحين، حيث انتشرت مجموعة من الزوايا والمزارات والأضرحة، داخل المدينة وفي أحوازها، وهي أماكن ارتبط ذكرها باسم الولي الصالح، سواء كان رجلاً أو امرأة. ومن هذه الأضرحة ضريح سيدي أحمد بن عاشر الأندلسي من الأطباء المشهورين في عهده، الذي استقر بسلا ودفن بها. وكان السلطان مولاي عبد الله هو من أمر ببناء ضريحه إلى أن جاءت فترة السلطان مولاي عبد الرحمان الذي أمر، إلى جانب توسيع المسجد، ببناء البيمارستان الكبير بجوار الضريح، وبناء نحو ثلاثين بيتاً متفاوتة الحجم للمرضى، نظراً لما لاحظه من تطارح الناس على قبره وشعورهم بالارتياح نتيجة ذلك. ومن مميزات هذا الولي أن يقام له موسم كل سنة في اليوم التاسع بعد عيد الأضحى، ثم ضريح سيدي موسى الدكالي وهو من صلحاء العصر الموحدي. بني ضريحه في عهد السلطان مولاي إسماعيل وكان يقام له موسم تجتمع فيه طوائف الصوفية من عيساوة وحمادشة وكناوة.

ومن عادات العائلات السلاوية أن تنظم بجوار هذا الضريح زيارات ونزهات كل يوم اثنين. وقد كان هذا الولي الصالح موضوع رواية «جارات أبي موسى» لأحمد التوفيق، التي نقلها المخرج عبد الرحمن التازي إلى عمل سينمائي. دفن بحي حمل اسمه واكتسب شهرة عالمية نهاية سنة 2001 حين اختير فضاؤه مجالاً لتصوير أحد الأفلام الأمريكية عن الحرب بتقنيات سينمائية عالية، عنوانه «سقوط الصقر الأسود» من بطولة جوست هاتنرت، وإخراج ريدلي سكوت، ومن إنتاج شركة كولومبيا.

أما ضريح سيدي عبدالله بن حسون، فهو لا يختلف عن سابقيه مكانة وعلماً وصلاحاً، ويعد أحد أقطاب الطريقة الجزولية، وكُلف بالإمامة وإلقاء خطبة الجمعة بالمسجد الأعظم بسلا، وتقديم دروس في الفقه والنحو وعلم الكلام والمنطق والتفسير، كما ساهم في تعبئة المغاربة ضد المستعمر، إضافة إلى أضرحة أخرى، منها سيدي بلعباس، سيدي بوشاقور، سيدي سلامة، سيدي مغيث، سيدي التركي، ممن عرفوا بالعلم والصلاح وما لوحظ منهم من خوارق وكرامات.

وبخصوص الجانب التربوي والتعليمي في المدينة، تستوقفنا معلمة أثرية قديمة تجسد مزيجاً بين المعمار المغربي والأندلسي، وهي المدرسة المرينية المجاورة للمسجد الأعظم، التي لا تتجاوز مساحتها 180 متراً مربعاً، وتعرف أيضاً بمدرسة الطالعة. بناها السلطان أبو الحسن المريني سنة 1341م، ووضعها رهن إشارة الأساتذة والقيّمين عليها والطلبة المقيمين بها، وتتألف من طابقين: طابق سفلي خاص بالدرس والصلاة، وطابق علوي يحتوي غرفاً للنوم. استمر التدريس بها إلى أواخر القرن التاسع عشر. وأعجب بها لسان الدين بن الخطيب بزخرفتها وهندستها، كما أعجب بها صاحب الإتحاف، واصفاً إياها بكونها أصغر وأجمل المدارس التي وصلت عمارتها حداً من المثالية في الصنع والإبداع، ومن أبرز المواد التي كانت تدرس بها: الفقه والآداب واللغة والفلسفة والطب والحرف. ورممت المدرسة مرات عدة في عهد الحماية وبعد الاستقلال. 

يضاف إلى هذه المعلمة مدارس أخرى، أنشئت على الطريقة الحديثة، ولها مكانة في التاريخ والحضور اعتباراً لمن كان يدرس بها أو يدرس فيها. من ذلك مثلاً ثانوية النهضة بوصفها أول ثانوية للتعليم الأصيل بباب شعفة، أسسها أبوبكر القادري لمعارضة التعليم الفرنسي، أو ثانوية النجد بحي بطانة كأول ثانوية للتعليم العصري، تلاهما إنشاء مؤسسات تعليمية أخرى، على امتداد المدينة، مثل ثانوية صلاح الدين الأيوبي بباب سبتة وثانوية ابن الخطيب بحي تابريكت ومدرسة فاطمة الفهرية بباب الخميس ومدرسة السور بباب شعفة وثانوية الحسن الثاني بسلا الجديدة.

أما مؤسسات التعليم العالي فعرفت بدورها تطوراً ملحوظاً، حيث أنشئت كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا الجديدة والمدرسة العليا للتكنولوجيا بطريق القنيطرة، ومعهد التكنولوجيا الفندقية والسياحية بحي السلام، والمدرسة الوطنية الغابوية للمهندسين بحي تابريكت، والجامعة الدولية للرباط بسلا الجديدة، كما خصصت ثانوية سلمان الفارسي لتدريس طلبة الأقسام التحضيرية، بحي بطانة.

توجد بالمدينة مكتبتان: الأولى عمومية أطلق عليها حديثاً خزانة عبدالرحمان حجي، تتوافر على عدد مهم من المصادر والمراجع وتعقد بها العديد من الأمسيات الشعرية والأنشطة الثقافية، أما الثانية فخصوصية هي الخزانة العلمية الصبيحية، وتصنف ضمن المعالم الحضارية والثقافية التي ساهمت في تجميل المدينة وتحصين أبنائها ضد الجهل والأمية. تبنت أسرة الصبيحي هذا المشروع الثقافي، أباً عن جد، منذ سنة 1967. وتشتمل الخزانة على نفائس المطبوعات ونوادر المخطوطات وأعداد وافرة من الجرائد والدوريات.

حين نقلب أمجاد الأسر السلاوية، يصادفنا تقليد سنوي مرتبط بإحياء ذكرى المولد النبوي يتمثل في موكب الشموع. وهو من العادات الراسخة، التي تعد من التراث اللامادي للمدينة، كان يشرف عليها الولي الصالح سيدي عبد الله بن حسون، ويعد لها ما استطاع من طقوس احتفالية دينية تليق بجلال المناسبة، طيلة أسبوع. وبعد موت هذا الأخير حافظ الشرفاء الحسونيون على هذه العادة وواصلوا الإشراف على تنظيم الموكب، ممثلاً في استعراض الشموع والطواف بها عبر مختلف أزقة وشوارع سلا. وتعود هذه الظاهرة الاحتفالية إلى عهد أحمد المنصور السعدي الذي نقلها عن الأتراك، وأعطى أوامره لصناع الشموع المهرة من مختلف مناطق المغرب، لصناعة هياكل شمعية كبيرة شبيهة بتلك التي شاهدها في تركيا.   

أنجبت سلا في المجال الثقافي عددا من الأدباء والمفكرين والفنانين والمناضلين والرياضيين، منهم شخصيات وقعت على وثيقة المطالبة بالاستقلال، وهم: عبد الرحيم بوعبيد، أبو بكر القادري، قاسم الزهيري، أبوبكر الصبيحي، الصديق بلعربي، محمد البقالي والطاهر زنيبر، إضافة إلى أسماء أخرى نذكر منها في السياسة محمد عواد وأحمد معنينو وعبد الواحد الراضي وإسماعيل العلوي. وفي الرياضة محمد موح وعبد اللطيف لعلو. وفي الموسيقى والغناء محمد البارودي والحسين السلاوي ومحمد بنعبد السلام ومحمد الغاوي وعبد المنعم الجامعي. وفي المسرح عبد الله شقرون ومحمد الجم وعبد المجيد فنيش وعبد الرحمن الكرومبي. وفي الفكر والإبداع أبو بكر المريني وعبد الله راجع ومحمد زنيبر ومصطفى الشليح ومحمد إبراهيم بوعلو ونجاة المريني ومراد القادري محمد حجي وعبد السلام بنعبد العالي وفي الإعلام الصديق معنينو. وفي فن الملحون محمد بنسعيد وإدريس بلمامون وعبد المجيد وهبي. وفي التجويد عبد الرحمن بنموسى وعبد الحميد احساين، والقائمة طويلة.

هذه الأسماء وغيرها كثير في مجالات تخصصها، أبانت عن روح وطنية عالية وقدمت خدمات جليلة للمدينة وساكنتها عبر إنتاجات متنوعة، فردية وجماعية، تجسد الهوية المحلية والثقافية. ومثلما يقال عن الأفراد يقال أيضا عن المجتمع المدني، من خلال بروز مجموعة من الجمعيات المدنية وما أسدته بدورها من أعمال اجتماعية وثقافية لصالح المدينة وأبنائها، بدءاً بالنادي الأدبي، ومروراً بجمعية أبي رقراق وجمعية سلا المستقبل وجمعية إدريس بلمامون للبحث والإبداع في فن الملحون وجمعية بيت المبدع الدولي وجمعية أطلس ماروك للعمل السوسيوثقافي، وانتهاء بجمعيات ذات الصلة الوثيقة بمجالات الموسيقى والرياضة والمخيمات الصيفية والمحافظة على التراث.

عرفت مدينة سلا بناء العديد من دور الشباب، وزعت على مناطق مختلفة بجماعات كل من تابريكت وباب المريسة والعيايدة وحي السلام، أما دور الثقافة فمنها واحدة بجماعة احصين بسلا الجديدة، إضافة إلى مشاريع إحداث مركبات ثقافية، في إطار تأهيل الجماعة الحضرية لسلا بشراكة مع وزارة الثقافة ومؤسسات أخرى، كدار البارود ومتحف دار القاضي وسينما الملكي. وقد اعتبر وزير الثقافة السابق محمد الأمين الصبيحي أن تأهيل مثل هذه المؤسسات سيحقق طفرة نوعية في الحياة الثقافية والفنية في مدينة سلا.

وفي السياق الثقافي ذاته، تشهد المدينة إقامة عدة مهرجانات، على غرار بقية المدن المغربية. فالمهرجانات الثقافية والفنية أضحت رهاناً حداثياً تسعى الدولة والمدينة معاً للانخراط فيه، بما أوتيت من مؤهلات مادية وكفاءات بشرية. نذكر من هذه المهرجانات السنوية بالمدينة: المهرجان الدولي لفيلم المرأة ومهرجان مقامات الإمتاع والمؤانسة والمهرجان الدولي لفلكلور الطفل من تنظيم جمعية أبي رقراق، وكذا مهرجان قراصنة الذي تشرف عليه كل سنتين الجمعية المغربية لمساعدة الأطفال في وضعية صعبة، ومهرجان سلوان الذي تنظمه جمعية سلا المستقبل، دون إغفال الأسابيع الثقافية والأيام الوطنية ومعارض الصناعة التقليدية والدوريات الرياضية.

أما في المجال المهني، فامتازت مدينة سلا بعدد من الحرف اليدوية والصناعات التقليدية خلدت مكانها بين المدن. ومن هذه الصناعات صناعة الحصر والفخار والدباغة والزليج والبناء والزرابي والطبخ، غير أن هذه الحرف ستأخذ في التراجع، بسبب التحولات التي شهدها المغرب، في مجال الصناعات الحديثة والتكنولوجيات الجديدة، مما استدعى من المسؤولين والمعنيين بالقطاع التفكير في طرق بديلة واقتراح أساليب جديدة للحفاظ على هذه المهن وتحديثها لتتماشى وروح العصر الحديث.

تشتمل سلا على فضاءات طبيعية وترفيهية، مفتوحة ومغلقة، تعتبر متنفساً لساكنة المدينة ونواحيها، فثمة شاطئ المدينة وشاطئ الأمم، حيث الشمس والسباحة والرياضة. وثمة غابة المعمورة بمساحتها الشاسعة وغزارة فرشتها المائية ووفرة أشجارها خاصة شجر البلوط الفلينيّ، وما يعود به من نفع اقتصادي وفير على المدينة، إضافة إلى فضاء الحدائق العجيبة التي استحدثها المهندس الزراعي الفرنسي مارسيل فرونسوا، ثم بحيرة سدّ سيدي محمد بن عبد الله وما له من دور في تخزين مياه الأمطار، وهو من السدود الخمسة الكبرى بالمغرب، تتجاوز حقينته ألف مليون متر مكعب. 

أما نهر المدينة، أبي رقراق، فمكانته رفيعة لا ترتبط بزوارقه ومراكبه فحسب؛ وإنما بمرساه أيضاً، حيث يوجد البحارة والصيادون والباعة وعشاق الأسماك الآتون من مختلف الجهات. واشتهر النهر بسمك نادر يعرف بـ «الشابل». 

تقام على النهر بعض التظاهرات الرياضية كـ«الجيت سكي»، تنظمها الجامعة الملكية المغربية للدراجات النارية المائية، أو التظاهرات الفنية كـ«نزهة الملحون»، التي ينظمها أهل فن الملحون وعشاقه، وتتم عبر الزوارق وتتخللها لحظات من الموسيقى والغناء. وبذكر الفنون والرياضة، فقد شاركت مدينة سلا في عدد من الألعاب الجماعية المختلفة، منها كرة القدم حيث أنشأت لهذا الغرض مجموعة من الفرق، كالاتحاد الرياضي، النادي الرياضي، النجاح الرياضي. وقد أدمجت تلك الفرق في آخر المطاف تحت اسم «الجمعية الرياضية السلاوية».

أما فضاءات مدينة سلا الاقتصادية من محلات وأحياء تجارية وأسواق شعبية، فقد شكلت محطة أساسية لتواصل السكان. أشهر هذه الفضاءات داخل المدينة السوق الكبير الذي كانت تعقد به، إلى جانب البيع والشراء، بعض فنون المسرح كالبساط والحلقة، ثم سوق الغزل الذي تعود شهرته إلى أزيد من نصف قرن، وهو خاص ببيع الملابس والأواني والأدوات المستعملة وبعض التحف القديمة، ويعرف أيضاً باسم سوق الدلالة. أما خارج المدينة فثمة سوق أسبوعي يعرف بسوق الخميس، ارتبطت شهرته ببيع أضحية العيد.  

وانسجاماً مع الدينامية التاريخية التي ميزت مسار المدينة خلال القرون السابقة، تشهد سلا، منذ القرن الماضي وخلال القرن الحالي، ازدهاراً ملحوظاً. فخلال هذه الفترة عرفت المدينة نمواً ديموغرافياً كبيراً، حيث نمت ضواحيها بشكل لافت، وغزا الإسمنت بساتينها ومساحاتها الخضراء، فكان أن انتشرت بها العديد من المنازل والعمارات الجديدة وأنجزت بها مشاريع الوداديات والمجموعات الاقتصادية وكذا الأحياء الصناعية. ولعل مقاطعة تابريكت وحدها يصل عدد السكان القاطنين بها إلى حجم عدد السكان ببعض المدن المتوسطة بالمغرب.  

وهكذا سترتبط المشاريع الحديثة في عهد الحسن الثاني ببناء («دار السكة» عام 1987)، التي تعنى بطباعة الأوراق المالية والقطع النقدية، ولها صلة بتشييد المركز الاقتصادي (تيكنوبوليس) وإحداث مدينة «سلا الجديدة». كما سيتم إنجاز مركز للعلوم والتكنولوجيا بسلا الجديدة على مساحة تقارب الثلاثمائة هكتار، إضافة إلى إنشاء بعض المتنزهات ومراكز الترفيه، أضخمها حديقة الألعاب ماجيك بارك، التي أنشئت سنة 2002 من طرف إحدى الشركات الكبرى، على الضفة اليمنى لنهر أبي رقراق.  

وانسجاماً مع مشروع التحديث، شُرع في تنفيذ مجموعة من البرامج، منها تأهيل مركز «العرجات» بجماعة السهول في 2009، وانطلاق العمل بجسر الحسن الثاني في 2011. وقد سعى هذا المشروع إلى التخفيف من ضغط حركة السير بين الرباط وسلا وتسهيل مرور القوارب وتمكين الملاحة بالنهر. ومنها تفعيل مشروع تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق، تمثل في عمليات ترميم عدد من المواقع والمآثر التاريخية، وكذا توسيع جنبات عدد من الشوارع وتأهيل الطرقات ومداخل المدينة، يضاف إلى ذلك إنجاز الميناء الترفيهي «مارينا سلا». 

وفي مجال النقل تعززت المدينة بوسيلة جديدة تمثلت في «الطرامواي»، حيث تم إنجاز خطين يبلغ مجموع طولهما 19.5 كلم، تربط عبرهما عربة الطرامواي المدينة/سلا بالرباط العاصمة، وسيلة تروم التخفيف من أزمة النقل الحضري. ويصل عدد العربات المجهزة وفق معايير دولية إلى أكثر من أربعين عربة، انطلقت شهر مايو 2011.

مدينة سلا تتقاسم ومدينة الرباط نهر أبي رقراق، غير أن هذا الفاصل النهري لم يكن إلا ليعمق العلاقات الحميمة بين سكانها، ويوطد روح التشارك الاقتصادي المثمر بين مسؤوليها، رفعا لكل ما قيل، في الأزمنة السابقة، عن ظاهرة العداوة والانفصال بينهما. ولعل أهم مظهر يزكي هذا الطرح هو انتماءُ المدينتين إلى نفس الجهة، فضلاً عن وجود أهم المنشآت التي تحمل اسم الرباط، كالمطار والجامعة الدولية، على أرضية سلا. 

مدينة سلا لها من المميزات ما يجعلها شاهداً على مرحلة مميزة من تاريخ المغرب القديم والحديث معاً، لذلك تظل الحاجة اليوم لمزيد من البحث والنبش في تاريخها لا للتمجيد فحسب؛ وإنما للعبرة وربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

إحـــالــة: يمكن الاطلاع على المقال/الاستطلاع كاملا بالصور، ورقيا على مجلة العربي ص.ص36-65. العدد 717 غشت 2018، أو الاطلاع عليه، افتراضيا، على الرابط التالي:  

https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/17710

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق