U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

وعـيُ الكـتابة وسُـؤالُ القـراءة في درس المؤلفات

اعتبارا للأهمية التي تكتسيها الكتابة الروائية، كجنس أدبي، وضمنها السيرة الذاتية، ارتأى المهتمون بالشأن التعليمي، بالسلكين الإعدادي والثانوي معا، إشراك المتعلم المغربي وإدماجه في عملية القراءة، من خلال اقتراح نصوص تنسجم وقدرته على الفهم والإدراك.

وقد كان المحفز وراء هذا المنزع التربوي، هو تشجيع التلميذ على مواصلة القراءة والاطلاع على بعض تقنيات الشرح والتحليل، خلال حصة المؤلفات.

في هذا السياق الأدبي والتربوي، تتوجه الدراسة إلى مساءلة إحدى الروايات السير ذاتية المغربية (رجوع إلى الطفولة)، التي قررت على تلاميذ السنة الإشهادية من التعليم الثانوي الإعدادي تحديدا، قصد النظر في مدى تحقق الوعي بالكتابة داخلها من جهة، ومدى تمثل سؤال القراءة، من جهة ثانية، عبر استحضار البعد التربوي أثناء التدريس.  

يعتبر درس المؤلفات، بالسلك الثانوي الإعدادي، إحدى المحطات التعليمية الهامة التي تبنتها وزارة التربية الوطنية، منذ سنوات. كما أفرد له منهاج اللغة العربية حيزا خاصا، باعتباره مكونا ديدكتيكيا، إلى جانب المكونات الدراسية الأخرى من نصوص ولغة وتعبير وإنشاء. ومن ثمة، كان تحقيق الكفايات اللغوية والمنهجية والتواصلية، لدى المتعلم من بين الأهداف والغايات التي يمكن أن يراهن عليها درس المؤلفات.

ولأن تلاميذ مرحلة الثانوي الإعدادي لم يستأنسوا بعد بقراءة وتحليل النصوص الطويلة، فقد رُوعي في اختيار الكتاب/المؤلَّف ما يتناسب مع سنهم وذوقهم، من جهة، وما يتلاءم وطبيعة المقاربة التربوية، من جهة ثانية. هكذا، وتفعيلا للتوجيهات الواردة بالمنهاج، خصص حيز زمني معلوم من كل دورة لقراءة مؤلَّف أدبيّ، يستحضر معايير القراءة المنهجية.

ومن الأعمال الإبداعية السردية، التي اقترحت على تلاميذ وتلميذات السنة الثالثة ثانوي إعدادي تحديدا، رواية (رجوع إلى الطفولة)[1]  للكاتبة ليلى أبو زيد، قصد مدارستها ومباشرتها بالدرس والتحليل. وهي رواية أدبية تربوية تحتفي بمحكي الطفولة بعوالمها المختلفة، وتقع مساحتها الورقية، في أكثر من مائة وأربعين صفحة.

فلماذا اختيار هذه الرواية؟ وما الذي يميزها ككتابة تعنى بالسرد، من جهة، وبالسيرة الذاتية، من جهة ثانية؟ أيهما يدفع إلى قراءتها، هل الشكل أم المضمون؟ وكيف يمكن للقارئ المتعلم أن يتفاعل مع طبيعة "التخييل الذاتي" المؤطر لها؟    

تنفتح الكتابة السردية عموما على مختلف العلاقات، التي نسجها الإنسان مع الحياة والوجود ومع أخيه الإنسان. وقد يلتبس مفهوم هذه الكتابة، بحسب التحديدات الكثيرة والتصنيفات العديدة التي تم اعتمادها، تبعا لمقصد تربوي صرف. فالرواية لم تعد مرتبطة بطبقة معينة، على الشكل الذي حدده الفيلسوف الألماني فردريك هيغل سابقا، كما لم تعد جنسا منحدرا من الملحمة كما قال بذلك الفيلسوف والناقد جورج لوكاش؛ وإنما اتخذت لنفسها مسارات جديدة تتغير باستمرار.

وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أهمية الحديث عن الرواية المغربية التي عرفت تحولا مهما، منذ أكثر من عقدين من الزمن. ويرجع ذلك إلى انفتاحها على نماذج كتابية عالمية، واسترفادها لكل ما هو معرفي وفني، مما أخصب نظامها وبنيتها على مستوى الوعي الكتابي، أو الرؤية الفنية[2].

لقد اشتغلت نظرية السرد الروائي بأسئلة انبثقت من الكتابة الروائية نفسها سواء اقترنت بالكتابة السردية، أو بتجربة التخييل الذاتي، باعتباره بديلا عن مفهوم السيرة الذاتية في ارتباطها بالواقع حيث يبوح الكاتب بأسراره ويحكي عن ماضيه وتجاربه وأفكاره. وهو ذات التصريح الذي عبر عنه فيليب لوجون وأسماه ب"ميثاق السيرة الذاتية". غير أن الميثاق التخيلي الذي يسم الرواية يطال التخييل الذاتي نفسه، من خلال رصد شكل التطابق بين المؤلف والسارد.

-         تخييل ذاتي بصوت المؤلف

يُمثل التخييل الذاتي أحد الأنماط الكتابية التي ظلت لسنوات خلت موضع نقاش وتساؤل، تبعا لما يطرحه من قضايا تمس مفهوما متشعبا هو مفهوم السيرة من جهة، ونوعية العلاقة التي تربطه بجنس الرواية من جهة ثانية. ولعل تعريف الكاتب فيليب لوجون للسيرة يعد من التعريفات المتداولة والمستهلكة، في كثير من كتب النقاد والباحثين، بالنظر إلى محمولها الدلالي. يقول بصدد تعريف هذا الجنس الكتابي السردي: "محكي استرجاعي نثري يحكيه شخص واقعي عن وجوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية، وخصوصا تاريخ شخصيته"[3]. بيد أن مفهومه للتخييل الذاتي، بهذا المعنى، يتقاطع بشكل أو بآخر مع أنواع سيرية أخرى، منها المذكرات والاعترافات والرحلة واليوميات وغيرها. وبهذا المعنى، رغم تعدد هذه التسميات؛ فإن التركيز "يقع على دور الإنسان المتكلم في سرد تجربته الشخصية بأشكال مختلفة، والتحدث عن ذاته لبواعث شخصية ودوافع اجتماعية."[4]، الأمر الذي يجعل محاولة تمييز فن السيرة الذاتية عن سواها، لا يتم بمعزل عن قراءة النصوص ذاتِها وتحليلها وفق آليات منهجية تستخبر مضامينها المتعددة وتستحضر أساليبها المتنوعة.

فإذا كانت السيرة الذاتية، بالمفهوم المتداول، هي ما يكتبه الكاتب عن حياته الشخصية؛ فإن هذه الكتابة لا تخلو أيضا من حذف وتغييب للحقائق، مادام الكاتب أو المؤلف لم يصرح بكل شيء ولم يكتب عن كل شيء، فمسار هذا السرد واستراتيجيته فرضت عليه أن يصرح بمواقف وحقائق، ويغيب أخرى؛ بمعنى حضور الحس الانتقائي للوقائع والأحداث.

إن مسار هذا التخييل تتوزعه منافذ أساسية عبر شكل اللغة النثري، وطبيعة الموضوع المطروق المخصص للحياة الشخصية، وأيضا من خلال وضعيتي المؤلف والسارد المتطابقتين مع المؤلف والشخصية الرئيسة. هي السيرة المستعادة التي كانت، ولكن بحسب الغاية ومقصدية الكاتب منها.

-         نحو رواية تربوية

هل يمكن الحديث عن رواية تربوية؟ وماذا نقصد بالرواية التربوية؟ وما الحاجة إليها؟ أسئلة مفتوحة تحتاج إلى إعادة التأمل والتفكير في صياغتها الدلالية وما يمكن أن يصدر عن تحققها في المشهد الأدبي والتربوي. وربما من باب الموضوعية العلمية، يجب التنويه إلى أن كل عمل روائي يصلح أن نطلق عليه صفة "التربوي"، شريطة أن يستجيب هذا العمل لأهم الاستراتيجيات التربوية. وهي الاستراتيجية التي تحترم المنهجية القرائية، بوصفها آلية تضع القارئ المتعلم في الحسبان.

فالتربوي من منظور سردي/قرائي موجه لتعميق المعرفة السردية عند المتعلم، وإكسابه خطة قرائية، بدءا من الملاحظة والفهم مرورا بمنهجية التحليل وصولا إلى التركيب وبلوغ الوعي بتحليل الخطاب. ويمكن، في هذا الصدد، أن نتوقف عند دراسة لأحد الباحثين يتحدث فيها عن إبستيمولوجيا القراءة من زاوية المنظورات الستة[5]، كما نادى بها الباحثان فيولا وسميت. وهي ذات المنظورات التي تبنتها وزارة التربية الوطنية للتدريس بها في حصة المؤلفات لفائدة تلاميذ السلك الثانوي التأهيلي تحديدا. وقد اعتمدت في هذه المقاربة التحليلية مراحل متدرجة بدءا بتتبع الحدث وتقويم القوى الفاعلة، مرورا بكشف البعد النفسي وتحليل البعد الاجتماعي، وانتهاء بتحديد الأسلوب واستخلاص البنية. لكن، هل كل رواية استجابت لشروط القراءة المنهجية هي رواية تربوية؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال كالآتـي: قد لا تصلح كل الأعمال الروائية أن نصفها أو ننعتها بالتربوية، لأن هناك معايير فنية وأسلوبية وأخلاقية مندمجة، بشكل عضوي، في الاستراتيجية التي تدرّس بها الرواية التربوية. وقد يتم تحويل كل المعطيات السردية إلى قيم وموضوعات قابلة للتأثير وخلق تفاعل وجداني ومعرفي مع الخطاب؛ إلا أن الإشكال المطروح لم تمثل رواية "سنوات تعلم فلهام مايستر" للشاعر الألماني جوته النموذج المهم لشكل الرواية التربوية[6].

 يبدو جليا من خلال ما تقدم، أن العمل الروائي التربوي هو عمل تتمحور فيه الأحداث والوقائع حول شخصية تغوص في عوالم حُبلى بالقيم والرسائل، التي تستفاد من حياتها داخل العمل السردي ككل. فبالاشتغال على الذاكرة تقاوم الرواية التربوية، ذات الرؤية الذاتية النسيانَ، وتنفلت من سلطة المعرفة، وذلك بخلقها مغامرة غير حذرة تبدأ بالحديث عن النفس وما يلفها من مواقف وأحداث. وتنطلق مثل هذه الكتابات غالبا من مرحلة الطفولة، حيث البطل/ الراوي إشكالي يستكشف ذاته ويتصالح معها، وهو في مواجهاته الدائمة مع العالم، ومع الذات والآخر.

إن مضمون مثل هذه النصوص، يسبر البطل، خلالها، عالم المثل ويحدد فعله وغايته مسبقا. وهو ما اصطلح عليه سيجموند فرويد ب"النص الضائع"، حيث تجتهد الذات البطلة في البحث عن هذا النص المنفلت واستدعائه بالاستعانة على عدة سنادات سردية وغير سردية، مثل المذكرات، الصور الفتوغرافية، المعالم والبنايات، الوثائق، أصدقاء الطفولة وما شابه ذلك.

 تحضر، في هذا السياق، بعض الكتابات التي عنيت بمحكيّ الطفولة وأفردت لها حيزا من التفكير والاهتمام، نذكر منها مثلا روايات كل من عبد المجيد بنجلون (في الطفولة) وعبد الكريم غلاب (سبعة أبواب) وأحمد الصفريوي (صندوق العجائب) ومحمد زفزاف (محاولة عيش) ومحمد شكري (الخبز الحافي) وعبد القادر الشاوي (الساحة الشرفية) ومن حذا حذوهم في الكشف عن حيز أو أحياز زمنية من سيرته الحياتية، خلال فترة الطفولة. والواقع أن هذه السير وغيرها، تطرح كثيرا من القضايا الأدبية على راسها إشكال التجنيس ومحتوى الموضوعات وصيغ التعبير الحكائية.  

ولعل المشترك بين هذه النماذج النصية أنها تستعيد، عبر الحكي الاسترجاعي، تاريخا حياتيا وذاتيا، على حد تعبير فليب لوجون. بيد أن الحقيقة في مثل هذه التجارب، من منظور نقدي، هي "على الأرجح قضية زائفة، إذ أن السيرة الذاتية من حيث هي سيرة ذاتية مجافية للحقيقة، وأول أسباب ذلك أن كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع مهما فعل أن يتخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه"[7].

يبدو من خلال قولة جورج ماي أن ظروف الكاتب وزمن الكتابة متحكمان في صياغة هذا السرد الذاتي التخييلي، الذي تكون فيه الذات ملتحمة بالماضي التحاما إلى حد الانغماس في الهموم والتسلل إلى الداخل لاكتشاف واستعادة التفاصيل.

نستحضر، بذكر هذه النماذج وغيرها، أسئلة كثيرة طرحت بشأنها من قبيل: ما مبرر العودة إلى الماضي وما الغاية من ذلك؟ هل من صلات تجمع بين أحداث  ماضوية وما يجري في الواقع الراهن؟ ما علاقة المؤلف كذات كاتبة بالشخصية/ البطل كذات ساردة، وما سر الالتباس الحاصل بينهما أحيانا؟ كيف ينظر المتلقي إلى مثل هذا النوع من الكتابة القائمة على التعرية والبوح؟ وبالتالي ماذا عن جوانب الإضافة والتخييل في هذه السيرة أو تلك؟ ثم ما مدى صدقية المحكي فيها؟ وهي أسئلة وأخرى تشكل مداخل متنوعة للقراءة.

وإذا كانت رواية التخييل الذاتي قد عرفت رواجا وذيوعا في صفوف الكتاب الرجال؛ فإن الحديث بصوت نسوي، خلال فترة السبعينيات وما قبلها، لم يكن متيسرا بما يكفي. فعدد الكاتبات آنذاك كان محدودا، وبذكرهن نتلمس مضايق الكتابة، بصفة عامة وكتابة الذات بصفة خاصة. نذكر منهن: خناثة بنونة وزينب فهمي وليلى أبو زيد.

ولعل في الحديث عن تجربة ليلى أبي زيد من خلال منجزها التخييل الذاتي (رجوع إلى الطفولة)، ما يقربنا من نوعية الكتابة التي تبنتها المرأة أسلوبا واختيارا، ومن طبيعة الموضوعات التي آثرتها وانشغلت بها.

-         التخييل الذاتي والوعي بالكتابة

تحضر الكاتبة ليلى أبو زيد كصوت نسوي آت من جبال الأطلس المتوسط يحمل همّ الكتابة ويرنو إلى استشراف الأفق الفسيح حيث الإيمان بالحرية وحقوق الإنسان والانتصار لقيم الحب والجمال. ولأن أعمالها، خلال قترة السبعينيات وما بعدها، توزعت بين أدب الرحلة وفن الترجمة وكتابة القصة والرواية والسيرة، فقد حظيت باهتمام بالغ من قبل المتتبعين والمهتمين بما تدونه المرأة ككاتبة. نورد من أعمالها: (بضع سنبلات خضر 7919)، (محمد الخامس 7919)، (عام الفيل 8219)، (أمريكا والوجه الآخر 8619)، (رجوع إلى الطفولة 9319)، ثم (الغريب 2000) وغيرها.

ولعل تجربتها بالخارج واشتغالها بالصحافة ثم بالإذاعة، بعد العودة إلى أرض الوطن، سيمكنها من حرفة الكتابة وربط جسور التواصل بينها وبين القارئ المتلقي، الواقعي والمفترض معا.

وتبعا لهذا الاهتمام، ستشكل روايتها (رجوع إلى الطفولة) لحظة إبداعية، يلج خلالها القارئ العربي وغير العربي أيضا، بعض عوالمها الواقعية والمتخيلة في آن. فماذا عن هذه مضمون هذه الرواية/ السيرة؟ وكيف نسجت الكاتبة خيوطها السردية؟ وماذا عن سر انتشارها وتداولها بين عموم القراء؟.

بالرغم من خلو المؤلَّف (رجوع إلى الطفولة) من إشارة تجنيسية على وجه الغلاف؛ فإن الكاتبة لم تترك الفرصة للتأكيد أن ما تضمنه هذا العمل يندرج في إطار تخييل ذاتي صرف.

 تقول في مقدمة الكتاب: "عندما كتبت أول مقال في أواخر الستينيات لم تكن عندي الجرأة حتى على توقيعه باسمي الحقيقي. وعندما كتبت أول رواية تركت بلدة البطلة بدون إسم لأنها بلدتي. بعبارة أخرى كان علي أن أنتظر سنوات طويلة قبل أن أجرؤ على كتابة سيرتي الذاتية" (أبو زيد. 2005. ص4).

ومعنى هذا أن الوعي بالكتابة حاضر بقوة، منذ البدء، في مسار الكاتبة. فبين تحرير المقالة وإبداع الرواية، رغبة دفينة في التعبير عن الذات من ناحية أولى، والتعبير عن المجتمع من ناحية ثانية. غير أن رقابة الذات/الأنا والمجتمع معا، حالت دون تحقيق مطلب الحرية في التعبير وفعل الكتابة. لذلك كانت الاستعانة بالانزياح والتخييل أمرا مبررا ومشروعا، مادام الهاجس، في مثل هذا النوع من الكتابة، هو التحرر من الغربة وأحادية الصوت.

تستحضر الكاتبة، في هذا العمل الأدبي، جزءا مهما من سيرتها الطفولية من جهة، وسيرة المجتمع المغربي من جهة ثانية. فقد تضمنت (رجوع إلى الطفولة) النبش في مجموع الذكريات التي عبرت في الزمان والمكان توثق لمرحلة من مراحل تاريخ المغرب، زمنيْ الحماية والاستقلال، وتضمنت أيضا الكشف عن بعض الحالات التي تعيشها الذات الكاتبة، في لحظات وعيها ولا وعيها أيضا، بالواقع وبالأشياء من حولها.

 فالكاتبة ليلى أبو زيد عندما تسرد ذاتها "فهي لا تنطلق من رهانات التوثيق على اعتبار أنها ترغب في تدوين ذات غير مؤهلة لتصبح مرجعا للانتصار والحكمة. كما لا تنفرد في التخييل أناها كمحور للحكي وبؤرة للمعاينة، ولكنها تجعل أناها تنخرط في الجماعي والاجتماعي، فتعبر عن السياق العام الذي يضم هذا الضمير."[8].

بالإضافة إلى ذلك يسعى هذا التخيل الذاتي إلى تدقيق بعض المفاهيم والتفصيل فيها مثل: السلطة والحرية والمقاومة والوطنية والديمقراطية وغيرها، مما سيتعرف إليه القارئ داخل فصول المتن الحكائي. وهي قضايا تعالجها الكاتبة من منظور ذاتي  ضيق مقرون بحياتها وأسرتها ومحيطها العائلي وما عايشته من مشاكل أسرية في سياق صراعها مع الحياة من جهة، وفي مواجهتها للمستعمر وحلفائه خاصة بعد الاستقلال.

وإيمانا من الكاتبة بجدوى الكتابة في بعديها الذاتي والأدبي، كان التوجه مطلوبا إلى إسماع صوتها بالدفاع عن المرأة مغربية كانت أم عربية، وتعانيه من حيف وإقصاء. وهو المعنى ذاته الذي انعكس جليا في المقدمة التي أفردتها لمؤلفها (رجوع إلى الطفولة) المقدمة. تقول الكاتبة: "كنت أريد أن أقول: نعم أنا امرأة مسلمة وأستطيع حمل القلم والتعبير عن رأيي في واقع بلادي. لا سيما وأن ترجمة (عام الفيل) كانت قد بدأت تفعل ذلك كما قال مايكل هول من جامعة ملْبورْن في أستراليا." (أبو زيد. 2005. ص5).

ستشرع الكاتبة، واستنادا على الذاكرة وتداعياتها، سرد طفولتها وما عايشته من مواقف وأحداث مع الأم والأب والجيران والصديقات. وبين ثنايا هذا السرد كانت تروي بعض الحكايات على لسان الجدة حينا وبعض الأصوات الأخرى حينا آخر. وقد توزعت هذه اللحظات الاستعادية إلى محطات تاريخية، ارتبطت بشكل مباشر ببعض الأمكنة التي عرضت لها تباعا:

-          القصيبة: من ص 8 إلى ص 55.

-          صفرو: من ص 56 إلى ص 101.

-          الدار البيضاء: من ص 103 إلى ص 130.

-          الرباط: من ص 131 إلى ص 148.

وهي أمكنة تفاوت حضورها الفعلي بالنسبة للذات، وأيضا بحسب التقارب والتباعد الحاصل بين الحكاية الإطار والبنيات الحكائية الجزئية، وكذلك بحسب التعابير والتفاصيل التي تتصل بهذه الشخصية أو تلك.

ولأن الهوية الوطنية من هوية الكتابة، فقد حرصت ليلى أبو زيد أن تكون المادة الحكائية لتخييلها الذاتية مُغريةً ومَغربيّةً بامتياز، وطرائقها السردية متنوعة ومتعددة، سواء تعلق الأمر ببناء المضامين أو بناء الشخصيات أو بتحليل الخطاب. ولعل في ذلك كله وغيره، ما جعل تداول الكتاب متداولا لدى فئة عريضة من القراء.

-         التخييل الذاتي وسؤال القراءة:

لم يقتصر تداول سيرة (رجوع إلى الطفولة) في الأوساط الجامعية عبر دراسات وأبحاث أكاديمية؛ وإنما امتد ليشمل مجالات التربية والتعليم. ففي إطار إصلاح المنظومة التربوية والتشجيع على القراءة، لم يتردد المهتمون والفاعلون في المجال التعليمي اقتراح هذا العمل السيري ليكون مادة تربوية يطالعها تلاميذ السنة الثالثة من سلك التعليم الثانوي الإعدادي، ضمن مكون درس المؤلفات. وذلك انطلاقا من بعض التوجيهات التربوية القائمة على اعتبار درس المؤلفات يأتي "تعزيزا للنشاط القرائي، ودعما للتفاعل والتواصل مع النصوص الأدبية الكاملة"[9]. والملاحظ أنه منذ سنوات والكتاب يُدَرّس وفق منهاج اللغة العربية، دون أن يجد اعتراضات أو تحفظات مثلما حصل مع مقترحات أدبية مغربية أخرى[10].

إن اعتماد نص "رجوع إلى الطفولة" ضمن المقررات الدراسية، ما كان ليحصل لولا استجابته لمواصفات الكتابة الأدبية التربوية، التي ألمحنا إليها في السابق من جهة، والتزامها، من جهة ثانية، بما نادت به أولى المذكرات الوزارية، ويتعلق الأمر بوحدة الموضوع.[11] وبين هذا وذاك، تماشي الرواية مع مقترح القراءة المنهجية التي نصت عليها، في ما بعد، التعليمات والتوجيهات التربوية الجديدة في تدريس مادة المؤلفات، من جهة ثانية. تلك القراءة المنهجية، التي حاولت الجمع بين ثلاث قراءات رئيسة هي

1 القراءة التوجيهية

2 القراءة التحليلية

3 القراءة التركيبية

وهي قراءة/ قراءات تزاوج بين العمودي والأفقي، بغية إدماج القارئ المتعلم في سيرورة القراءة للمتن المسترسل وللنصوص الطويلة، تحديدا.

يضاف إلى هذا وذاك، طبيعة "الموضوعة" التي تؤطر طبيعة التخييل الذاتي، ونوعية "البنية" التي تشكل انتظام فصولها. وهما عنصران أساسيان ساهما في تحقيق التفاعل مع الفئة التعليمية من الناشئة وضمان انسجام النص الأدبي التربوي واتساقه. ومن ثمة، قابلية التخييل الذاتي لفعل القراءة والفهم وإنتاج المعنى.

ولما كان المتعلم محور العملية التعليمية التعلمية في الإصلاح التربوي الجديد، فقد اتجه الميل إلى تشجيعه على القراءة وتحفيزه لبذل الجهد في الانتقال من قراءة النصوص القصيرة إلى قراءة النصوص المسترسلة والطويلة، التي تتطلب منه نفسا أكثر، وحيزا زمنيا أوفر.

غير أن فعل القراءة رغم كونها "عملية من التأويل يشغل القارئ فيها مجموعة من العمليات العقلية، ويوظف مجموعة من الآليات الإجرائية التي يستطيع بها محاورة النص والدخول معه في علاقة حميمية"[12]؛ فإنها لم تكن كافية وحدها لتحقيق الهدف المنشود. ومن ثمة، كان التفكير في تبني (الإقراء)، بما هو "إجراء بيداغوجي بنائي، يقوم على مجموعة من الخطوات المنهجية المدروسة، لنقل فعل القراءة، من مجاله العمومي الشاسع، إلى المجال الديدكتيكي."[13]

ولا شك أن سيرة ليلى أبي زيد، بحكم اقترابها من وعي الناشئة، تحقق للمتعلم أهم الكفايات التربوية المطلوبة، منها الكفاية الثقافية والكفاية التواصلية والكفاية المنهجية ثم الكفاية الاستراتيجية. ولأن فعل المزاوجة بين القراءة والإقراء بعد ديداكتيكي بالأساس؛ فإن حصيلته تتمثل في قدرة المتعلم على وضع النص في سياقه الأدبي والتاريخي، من جهة، وتتبع مساراته وضبط موضوعاته المختلفة، من جهة ثانية.

هكذا، باعتماد خطوات القراءة المنهجية وتمكين المتعلم من آلياتها، يتحقق لديه جزء كبير من الاستقلالية والتعلم الذاتي، حيث ينتقل من القراءة الخطية إلى القراءة التحليلية. أي بمعنى أوضح، من قراءة المعنى إلى قراءة معنى المعنى بالمفهوم الجرجاني. وفي هذا الصدد صدرت مجموعة من الكتب الموازية تباشر بالقراءة والتحليل رواية الكاتبة (رجوع إلى الطفولة) استند أصحابها إلى القراءة المنهجية المعتمدة في تدريس المؤلف. والملاحظ أن هذه الكتب الموازية للمؤلف السردي السيري قد تفاوتت، من حيث الحجم، من جهة، ومن حيث القيمة المعرفية والتربوية التي تقدمها، من جهة ثانية.[14]

ولأن مؤلف (رجوع إلى الطفولة) يخاطب في المتعلمين واقعهم الملموس، من خلال حكايات الجدة واستحضار العادات والتقاليد وإحياء التراث، وينسجم وميولهم إلى النصوص السردية، حيث اللغة البسيطة والتركيب القريب والحكي اللطيف؛ فإن إمكانية التفاعل مع متن هذا المؤلف الحكائي والتجاوب مع شخوصه وإبداء الرأي في موضوعه يبدو تحصيل حاصل، ينم عن فهم وإدراك. وهو ما يبدو جليا في بعض إنجازاتهم الصفية بحصة التعبير والإنشاء، بما تشمله من مهارات التخيل والإبداع والنقد والحكم، ومن خطابات السرد والوصف والحجاج[15]. كما يبدو جليا، من خلال أنشطتهم الموازية حيث التشخيص ولعب الأدوار وتمثل القيم. وقد يدعم ذلك أيضا، ما تحفل به السيرة من ألغاز وأمثال وأغاني وحوارات وألعاب مثيرة بين الأطفال.

تقول الساردة: "كنا كذلك نلعب (إلا جاك غراب عطيه قراب وإلا جاوك جوج غربا عطيهم جوج قربا كيف عطيتي لغراب قراب. وإلا جاوك ثلث غربا عطيهم ثلث قربا كيف عطيتي لجوج غربا جوج قربا كيف عطيتي لغراب قراب...) وهكذا ومن يصل إلى أعلى عدد دون أن يتلعثم أو يخطئ يكون هو الفائز" (أبو زيد. 2005. ص91).[16] وهو مقطع تخيرت الكاتبة أن تسرده باللهجة العامية، حرصا منها على توثيق النص في لغته الأصلية والحفاظ على جماليته الأصلية. وقد لقي مثل هذه المقاطع في نص (رجوع إلى الطفولة) استحسانا مباشرا مع القارئ المتعلم.

وبالنظر لمثل هذا التفاعل الإيجابي مع سيرة الكاتبة يكون القارئ/ المتعلم هو المستفيد الأول. فهو من سيدرك الفرق بين قراءة نص أدبي ومؤلف كامل. وهو من سيميز بين الطريقة والمنهج خلال عملية التلقي. وهو أيضا من سيسهم في عملية التعلم الذاتي. وأخيرا هو من يستطيع تحويل مكتسباته إلى نص إبداعي، شفهي أو مكتوب.

وهكذا حين يستأنس المتعلم بقراءة (رجوع إلى الطفولة) كمتن طويل، يتعرف إلى خصائص الكتابة السردية ومقوماتها الفنية، من أحداث وشخصيات وزمان ومكان وسرد ووصف وحوار، وما إليها. كما يدرك مضامين الرواية وما تطرحه المؤلفة من آراء تستدعي منه اشتغال حسه في الملاحظة وتدرب حسه على النقد والمحاورة. وبالتالي تدفعه الحكاية/ السيرة إلى تمهير ذاته على التعبير والكتابة، كلما تقدم به السن وحنّ إلى ماضيه، فقرأ ذاته من خلال هذا الماضي.

خـــاتـــمـــة

لقد راهنت الكاتبة ليلى أبو زيد، في منجزها السيري، على الكتابة عن هويتها الأنثوية بحكي ذاتي أنثوي قصد إسماع صوتها وإثبات وجودها، ليس فقط لكونها امرأة؛ وإنما لكونها ذاتا مبدعة، تحمل موروثا ثقافيا متنوعا تستطيع من خلاله المساهمة في بلورة الرؤية الإبداعية وتطويرها. ومن ثمة، انتصبت الجرأة في الطرح والرغبة في البوح، عبر لغة عربية تمتح من مرجعيات متعددة، ثقافية واجتماعية ودينية وتراثية.

إنه تخييل ذاتي تقرأ فيه الكاتبة ذاتها وتطرح، من خلاله، أسئلتها الوجودية والوجدانية. وهي بذلك، تحدد معالم سرد جديد ينطلق من التفكير في الماضي بوعي الحاضر، ويسعى إلى تمرير رسائل تربوية هادفة مقرونة بوعي الكتابة وسؤال القراءة.


 

قائمة المراجع

 

[1] - ليلى أبو زيد. 2005. رجوع إلى الطفولة. منشورات المدارس/ الدار البيضاء. الطبعة 3

[2] - زهور كرام. 2013. ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي. دار الأمان/ الرباط. ص 13

[3] - فيليب لوجون. 1994. السيرة الذاتية. ترجمة وتقديم عمر الحلي. المركز الثقافي العربي، بيروت/ البيضاء. ص22.

[4] - محمد الداهي. 2007. الحقيقة الملتبسة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات. منشورات المدارس/ البيضاء. ص10

[5] - محمد بوعزة. 1999. إبستيمولوجيا القراءة: قراءة في المنظورات الستة. مجلة فكر ونقد/ الرباط. العدد20. ص75- 86.

[6] - جورج لوكاش. 1988. نظرية الرواية. ترجمة: الحسين سحبان. منشورات التل/ الرباط. ص128.

[7] - جورج ماي. 1992. السيرة الذاتية. ترجمة: محمد القاضي وعبد الله صولة. بيت الحكمة/تونس. ص94.

[8]- زهور كرام. 2013. ذات المؤلف من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي. دار الأمان/ الرباط. ص58

[9]- انظر المذكرة الوزارية رقم 105 الخاصة بتدريس المؤلفات بالسنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي لمادة اللغة العربية. 7 أكتوبر 2005

[10] - صادفت على سبيل المثال رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري معارضة، من قبل بعض مفتشي وأساتذة اللغة العربية بدعوى اشتمال هذا المتن السردي على لغة ومشاهد إباحية لا تتناسب والفئة التعليمية. الأمر الذي يمكن أن يطرح في سياق (الأدب والممنوع).

[11] - انظر المذكرة الوزارية رقم192. بتاريخ 25 غشت 1979.

[12]- البشير اليعقوبي. 2006. القراءة المنهجية للنص الأدبي، النصان الحكائي والحجاجي نموذجا. دار الثقافة/ الدار البيضاء. ص67

[13]- محمد حمود. 1998. مكونات القراءة المنهجية للنصوص. دار الثقافة/ الدار البيضاء. ص15

[14]- نذكر من بين من هذه الكتب التي واكبت تحليل الرواية السير- ذاتية وفق القراءة المنهجية الجديدة:

[15]- انظر ما اقترح من مهارات في مكون التعبير والإنشاء بالكتاب المدرسي الخاص بالسنة الثالثة من التعليم الثانوي الإعدادي.

[16]- كنت قد قدمتُ نشاطا تربويا، بدعوة من إدارة إحدى المؤسسات التعليمية بنيابة سلا، بحضور المؤِلفة، ولاحظت التفاعل التربوي الكبير الذي حصل بينها وبين تلاميذ السنة الثالثة إعدادي، من خلال حوار مفتوح حول سيرتها الذاتية، فيما قدم مجموعة من التلاميذ، بالمناسبة، فقرات تشخيصية من سيرة المؤلفة ليلى أبو زيد الذاتية تنم عن فهم ووعي وإدراك بالنص المقروء.

  نشر المقال بمجلة "التدريس" كلية علوم التربية عدد 9-10 السنة 2018   


تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. نشكر أستاذنا على المقالة الرائعة

    ردحذف

إرسال تعليق