سلطة الإعلان الجديد
تشهد الحركة الإعلامية والثقافية ولا تزال، منذ اندلاع الثورة التكنولوجية بالبلاد العربية، دينامية واضحة على مستوى التواصل وتبادل المواقف والخبرات. فالإنسان العربي غدا مهووسا بعالم المعرفة الجديد، الذي اتسع وامتد إلى أبعد الحدود، لم يملك معه سوى التفاعل والاندماج مع هذا "الجديد" من خلال الانتصار لمقترحاته المتتالية واللامتناهية. ولعل أبرز مظاهر هذا التفاعل ما ارتبط بانصراف الفرد أو الجماعة نحو عدد من شبكات التواصل الاجتماعي، في تعدد مواقعها وتنوع آفاقها كخدمة بديلة للإعلام التقليدي القديم.
وإذ حظيت وسائل
الإعلام الجديد بهذه الأهمية القصوى، وهي أهمية تشي بالبعد الحركي للفكر الإنساني؛
فإنها تعكس، بصورة أو بأخرى، بعض قيم الحداثة بوصفها جزءا من حضارة الأمة وتقدمها
على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية
والثقافية وغيرها. وهو ما يجعل أمر هذا التقدم المجتمعي مدعاة للتأمل والمتابعة.
والواقع أن
هذه الدينامية الجديدة لم تكن لتبرز للعيان، لولا تجاوب الإنسان العربي الحديث معها
من خلال حرصه الشديد على تطوير ذاته وتيسير خدماته، الفردية منها والجماعية. لقد كانت
الاستعانة بالوسائل الحديثة أمرا مبررا في الترويج لمنتج فكري أو اقتصادي أو فني
وغيره، يسعى المُعلِن من خلاله إلى التأثير في المتلقي والوصول، بسرعة البرق، إلى فكره وذوقه وجيبه. ومن ثمة، لا يمكن الحديث
عن سلطة الإعلان الجديد، بمعزل عما اشتملت عليه هذه الإعلانات من حيل ومواقف ورؤى
متفاوتة، يستفيد صاحبها من بلاغة الصورة حينا ومن بلاغة اللفظ والعبارة حينا آخر.
ولنا في
المشهد الثقافي العربي ما يعكس نماذج كثيرة من هذه الإبدالات الحديثة في مجال
الإعلان، بأنواعه المختلفة والمتفاوتة. يكفي أن نذكر منها ما أصبح للكاتب العربي من
قدرة فائقة على إيصال مادته الأدبية أو العلمية إلى أبعد نقطة ممكنة في العالم، من
خلال حاسوبه أو هاتفه المحمول أو لوحته الذكية، بعد أن كان مجبرا في الإعلام
القديم على الانتظار الطويل قبل الحصول على تأشيرة رضى من قبل الناشر أو الموزع. كما
يمكن أن نضيف، إلى هذا المعطى الجديد، ما أصبح يتمتع به القارئ العربي من إمكانيات
جديدة للقراءة والحصول على الكِتاب في نسخة رقمية لا تحتاج سوى نقرتيْ تحميلٍ وتثبيت.
ناهيك عما امتلأت به شبكات الأنترنيت من مواقع للتواصل السريع عبر المنتديات
والمدونات وغيرها.
إنه زمن التواصل
والمعرفة بامتياز وزمن الإعلان
والتسويق المتعدد المناحي والتوجهات. وهو ما
يفسر سرَّ الوصول السريع إلى المعلومة وسرَّ الحدّ من سلطة الرقابة التي كانت سائدة
قبل انتشار الفضاءات الرقمية؛ بل وسرَّ تكافؤ الفرص بين الناس أجمعين في الكتابة
والنشر والدعاية. لا شك أن إعادة التأمل في السابق من الإعلام الرسمي وغيره، يفضي
بنا إلى ما الطفرة النوعية التي عرفها الترويج للمنتوجات المختلفة عبر الوسائط الرقمية الجديدة.
لقد أصبح للمُشهِر
الحديث فلسفة جديدة ترصد بنية المجتمع وتدرس إمكانيات الوصول إلى المستهلك بطرائق بديعة
مختلفة، لا تخلو من حنكة وذكاء وذهاء. ولنا أن نتأمل بعض فقرات الإشهار عبر شاشة
التلفاز مثلا لنتلمس تلكم السلطة الرمزية التي باتت للإعلام الحديث، فقد غير
الكثير من العادات السابقة التي لم تتجاوز حدود العرض والتعريف بالمنتج. وتبعا
لذلك، صرنا أمام تقنيات جديدة مبتكرة في تسويق المنتجات وترويجها عبر الغناء
والتكرار والإغراء أو غيرها. لنتأمل مثلا إشهارات الهواتف والحواسيب والسيارات وكذا
المباني والشقق والعمارات بالإضافة إلى أنواع التجميل والتنظيف والمشروبات
والمأكولات وغيرها كثير.
وإذا اعتبرت التقنيات
الإشهارية السابقة وما ينضاف إليها من حين لآخر، نحو الفكاهة والسخرية والرقص،
وسائط مركزية للإعلام الجديد؛ فإن الرهان على زمن المشاهدة يظل أساسيا في تقييم
المنتج يوم العرض، كوقت الذروة أو شهر رمضان مثلا. لذلك غالبا ما يفكر المشهر في
توقيت بث المنتج قبل المجازفة بعرضه على الملأ. ومن ثمة اعتبرت نسب المشاهدة علامة
أساسية لنجاح هذا الإشهار أو ذاك. وهكذا كلما تردد الإشهار في المسامع إلا ووجد مكانه
شاغرا في ذهن المستهلك، مشاهدا كان أم مستمعا. وبين هذا أو ذاك، لا يمكن أن نغفل
ما لدور استحضار الأطفال أو النساء من تأثير بالغ وبليغ على المشاهد، فحضور الصورة
مع المكتوب أو المنطوق علامة مميزة لكل لوحة تعبيرية، صامتة أو متحركة.
إن حضور الإعلام/
الإعلان بهذه الرحابة وانتشاره السريع في مختلف بقاع العالم، هو ما مكنه من اختراق
الذاكرة والوجدان. ويمكن أن نجمل هذه السلطة الرمزية في الآتي:
-
ترسيخ قيم متفاوتة
لدى المشاهد والمستمع والمستهلك
-
بلورة وعي
جمالي بالصوت أو الصورة أو بهما معا
-
تثمين ما يعرف
ب"لذة الشراء" و"لذة القراءة"
-
ابتكار تقنيات
جديدة للعرض والبيع والتسويق
-
استغلال منافذ
جديدة غير متداولة لترويج البضاعة
هذه
وأخرى مما يمكن أن نصادفه في الإعلان الجديد، باعتباره سلطة رمزية أحدثت تغييرات
كبيرة في المجتمع وأظهرت بعض ما فيه من تفاوتات بين القبول والرفض، على مستوى التلقي.
فهناك
من يرى أن ما أظهرته الثورة الرقمية والتكنولوجية من مزايا لا ينبغي أن نطمئن إليه؛
فالأمر لا يخلو من قلق وخوف على العصر والإنسان/ المستقبِل حيث الإصرار على الخدعة
والمبالغة والتزييف وتسليط الضوء على منتج دون آخر، بالإضافة إلى استغلال حضور الطفل
والمرأة بصورة تخالف أحيانا قيم المجتمع المتعارف عليها. وهناك من يرى أنه لا يمكن
أن نلغي، بجرة غيرة أو رفض للحداثة، ما حققته هذه التكنولوجيا الجديدة وما راكمته
من مزايا تروم خدمة الإنسان العربي الحديث.
أخيرا،
بين هذا الرأي أو ذاك، تظل الحاجة ماسة إلى تطوير الخدمات وتجديدها، بما يتناسب
وطبيعة المجتمع والأفراد.

إرسال تعليق