U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

ذاكـرةُ الـكِـتـابـة

 

من خلال "أعلام في الذاكرة والوجدان" لنجاة المريني


حظيت مدينة سلا بالعديد من الكتابات التي تؤرخ لفكرها وتاريخها وجغرافيتها. وهي كتابات تشكل مرجعا أساسيا لمن يرغب في معرفة المزيد عن هوية المدينة، بوصفها جزءا من حضارة المغرب الكبرى. ولعل ما بقي من الآثار العريقة في هذه المدينة، يؤكد القيمة الرمزية التي كانت تحظى بها خلال الفترات السابقة، على مختلف المستويات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية. فقد اعتبرت سلا "معسكرا للدولة الحاكمة ومركزا تجاريا لها تارة، ومرسى للجهاد والقرصنة إلى حدود 1817 تارة، كما اعتبرت موطنا للعلماء والأولياء تارة أخرى. لذلك، نجد عددا من المؤرخين والأدباء قد أولوها كبير العناية بالكتابة عنها والتأريخ لها."[1]

ومثلما كتب المؤرخون كتب الشعراء والساردون. كتبوا من منطلقات متعددة عن سلا الذاكرة والمكان. وقد كانت الغاية من ذلك، ولا تزال، تأكيد هوية وتأصيل محبة. وبين هذه الكتابة أو تلك، تحضر الذاكرة بكل عنفوانها لتسجل أقوى اللحظات القمينة بالتأمل والمصاحبة.

ولأن هوية المدينة لا تتحدد إلا بالنصوص المكتوبة التي فكرت فيها وبالفنون التي كانت تعكس مجالها الجغرافي والثقافي؛ فإن عددا غيرَ يسير من الأدباء والعلماء، ممن عبروها أو أقاموا فيها، أبانوا عن مدى ارتباطهم الحميم بالمكان، في علاقته بالأشياء وبالإنسان. فثمة أنواع كثيرة من القول شكلت مجالا خصيبا للتعبير والكتابة. ومن ثمة، لا يمكن الحديث عن سلا، أو ذاكرة سلا، بمعزل عما اشتملت عليه، هذه الكتابات من مواقف ورؤى، وما حققه أدباؤها وعلماؤها من تواصلات مع الذات والآخر.

والواقع أن سلا أنتجت رجالا ونساء ممن صنعوا مجدها وجددوا ثقافتها على فترات زمنية مختلفة؛ بل حولوها بكتاباتهم وأشعارهم إلى مدينة عالمة يضرب بها المثل في الحضور والعطاء.

يمكن أن نستحضر، في هذا السياق الاحتفائي بذاكرة المدينة/ سلا، وما يجسده هذا الفعل الحضاري من قيم تؤثثها ثقافة الاعتراف، كتاب الدكتورة نجاة المريني "أعلام في الذاكرة والوجدان". فإلى أي حد كانت ذاكرة المدينة، في هذا الكتاب، من خلال أعلامها، موضوعا يليق بالتفكير والكتابة؟ وكيف تجسدت العلاقة بين سلا الذاكرة وسلا الكاتبة؟

بعد صدور كتابها "سلا ذاكرة وحضور"[2]، وما شمله من إحاطة بذاكرة سلا وإلمام بجزء غير يسير من قضاياها التاريخية وظواهرها الاجتماعية، تواصل الدكتورة نجاة المريني مشروعها الاحتفائي بذاكرة المدينة، من خلال عمل سيري جديد يحمل عنوان"أعلام في الذاكرة والوجدان"[3]. صدر هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء تضم أكثر من خمس وستين مداخلة تحتفي بمجموعة من الشخصيات الفكرية والأدبية والسياسية، من مختلف أقطار المغرب (الرباط، سلا، الدار البيضاء، مكناس، مراكش، طنجة، أصيلا، الناضور، فكيك، فاس، شفشاون، تطوان، سطات وغيرها). ضم كل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة عددا من الشخصيات السلاوية، التي ساهمت كتابتها في إنعاش الذاكرة الثقافية للمدينة، نذكر منها أبا بكر القادري، عبد الرحمن القادري، عبد الله بنسعيد، الطاهر زنيبر، محمد بن أبي بكر المريني، أحمد اليبوري، عبد الرحيم بوعبيد، المهدي بن عبود، محمد حجي، سعيد حجي، أحمد معنينو، محمد عواد، مصطفى بوشعراء، محمد بن أحمد اشماعو، ومن الشخصيات النسائية نذكر السعدية زنيبر ومارية القادري. غير أنه بالرغم من تعدد هذه الأسماء وتفاوتها إنتاجا وحضورا، فثمة قواسم مشتركة تجمع في ما بينها على رأسها الاحتفاء بالمكان/ المدينة أو الإسهام في إحياء الذاكرة عبر التأليف والكتابة.

تفصح الكاتبة في الجزء الأول من الكتاب عن غايتها من التأليف في مجال الترجمة واعتبار تكريم العلماء والأدباء لونا من ألوان الاعتراف. تقول: "رموز ثقافية رائدة تركت بصماتها واضحة في الحركة الأدبية والعلمية والسياسية في المغرب، وسجلت بكتاباتها المتنوعة حضورا متميزا للمغاربة في مجال الكتابة والتأليف، بعد أن كانوا قديما يُنعتون بأن حظهم في التأليف قليل وعنايتهم بالكتابة ضعيفة، ومن ثم فإن هذه الرموز أهل لأن تنشط بسببها الأذهان وتنوه بعطائها ما تسجله الأقلام."[4] وانطلاقا من هذا المسعى الاحتفائي بالأعلام المغربية، وضمنها من ينتمي إلى مدينة سلا مولدا ونشأة؛ فإن الكاتبة تستدعي الذاكرة وتروم من خلالها المساهمة في التعريف بها والترويج لكتاباتها.

واللافت للانتباه أن مضمون مقدمة الجزأين الثاني والثالث، من الكتاب، لم ينفصلا عن مضمون المقدمة أعلاه. فالهدف ظل واحدا يتمثل في أن الكتابة عن هؤلاء الأعلام "تعبير عن مشاعر التقدير والتكريم في حياتهم والعرفان والوفاء بعد وفاتهم"[5]. كما أن المنهج أيضا لم يتغير. فكل جزء ينقسم إلى قسمين: قسم بعنوان (تكريم واعتزاز) وقسم بعنوان (وفاء وتقدير). أما المداخلات فقد تنوعت بحسب الشخصية المتحدث عنها، وتفاوتت بحسب المناسبة التي تراوحت بين شهادة وعرض وتأبين.

ولأن غاية الكاتبة، في هذا العمل/ المشروع استعراض القيمة الرمزية للأعلام السلاوية؛ فإنها تؤكد، في كل مقالة أو مداخلة، اعتزازها الكبير بهم، دون تمييز. فثمة العم والقريب والصديق، وثمة المدرس والمجاهد والمؤرخ والأديب، وثمة السفير والفقيه والإعلامي والطبيب. تقول عن شخصية أحمد اليبوري مستحضرة ذاكرة المكان: "كان أول درس تتلمذت خلاله على الأستاذ بمؤسسة النهضة بمدينة سلا، في بداية الستينات، في أول سنة دراسية لي بالثانوي في مادة الترجمة، وهي ليست بالمادة الميسرة، خاصة بالنسبة لتلاميذ المدرسة الوطنية الحرة."[6]

ولا تقف الكاتبة عند حدود هذه الإشارات، وإنما تفيض في سرد بعض المواقف والأحداث التي تظهر فيها الشخصية مهيبة وحازمة، وتذكر بالدور التربوي حيث الحرص على أداء الواجب المهني. وبذات الحماس تتحدث عن شخصية عبد الرحمن القادري وتعلي من شأنه باعتباره رمزا من "رموز الوطنية في تاريخ مسقط رأسه سلا، وفي تاريخ الوطن، عرفته السوح الثقافية والتربوية والنضالية في الفترات العصيبة التي عاشها المغرب، مناضلا من أجل كرامة الوطن، من أجل إرساء لبنات الوعي والتحرر من الجهل، ومحاربة المستعمر بأفتك الأسلحة وأشدها، بالدرس والعلم وتنوير الفكر."[7]

ومهما اجتهدت الكاتبة في مديح شخصيات سلا، من خلال النبش في ذاكرتها وتعداد عطاءاتها في مجالات تخصصها، فسرعان ما تشعر بالحسرة وتدفعها الغيرة للجهر بالرأي. نجد مثال ذلك في خاتمة مقالتها عن الدكتور المهدي بن عبود: "ألا يحق للمؤسسات العلمية وللجامعة التي بذل فيها جهدا كبيرا وللشعبتين اللتين قدم فيهما للطلاب زبدة ما لديه أن تقيم الندوات العلمية للحديث عن فكره وإشراقاته ومؤلفاته؟ ألا يحق لمنظمة الكشفية الحسنية التي أصبحت اليوم تعرف بمنظمة الكشاف المغربي أن تقيم دورة بل دورات لتخليد ذكرى الراحل العزيز، الرجل الكشاف؟ ألا يحق لحزب الاستقلال في مسقط رأسه سلا أو على الصعيد الوطني أن يقيم ندوات تكريمية للرجل بعد وفاته؟ اعترافا بجهاده ونضاله ومسؤوليته في صفوف الحركة الوطنية؟.. ألا يحق للوزارة الوصية أن تقيم له المهرجانات للتعريف به كواحد من الفوج الأول للأطباء المغاربة الذين درسوا بالخارج؟ ألا يحق لأصدقائه الأطباء ولأصدقائه العلماء ولمن تأثر به أن تقيم الندوات للتعريف به وبمؤلفاته وبقصيدته اليائية الرائعة؟"[8]

هكذا تواصل الكاتبة في سائر الأجزاء الثلاثة، استحضار المكان موطنا واستدعاء الذاكرة سبيلا لمكاشفة الأعلام من بني بلدتها، لتعاود الإنصات إليها وتكتب عنها. ولعل حضور هذه الأعلام وتألقها في المكان، هو ما سمح بأن تعمّر طويلا وتسكن في الذاكرة والوجدان. ويمكن أن نجمل المواصفات المميزة لهؤلاء الأعلام حسب الكاتبة، في ما يلي:

-                    ترسيخ القيم النبيلة وبلورة الوعي الوطني

-                    الدفاع عن القضايا الاجتماعية والاعتناء بالبحث والتحقيق

-                    الالتزام بالتوجيه والتكوين والانتصار للغة العربية

-                    الانفتاح على اللغات والعلوم والحرص على النظام والانضباط

-                    الغيرة على المدينة والإخلاص في المهنة.

هذه وغيرها، من بين ميزات كثيرة، دفعت الدكتورة نجاة المريني، للتفكير في المكان/ سلا، من خلال الاحتفاء بالذاكرة عبر الكتابة عن عدد من الوجوه المغربية المشرقة، التي تركت أثرا، وخلفت آثارا استدعت القراءة والمزيد من التأمل وإعمال النظر. وتبعا لذلك، استحقت هذه الأسماء أن تحظى بعناية الكاتبة وتدرج ضمن كتابها: "أعلام في الذاكرة والوجدان".  

 



[1]- أحمد زنيبر. سلا ذاكرة وامتداد. مجلة العربي العدد 717 السنة 2018 ص38

[2]- نجاة المريني. سلا ذاكرة وحضور. مطبعة النجاح الجديدة. 1999

[3]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ثلاثة أجزاء. مطبعة الأمنية. الرباط. (ج1/2007_ ج2/2009_ ج3/2012)

[4]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج/ 1 ص 5

[5]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج/ 2 ص 5

[6]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج/ 1 ص 99

[7]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج/ 3 ص 108

[8]- نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج/ 1 ص 146

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق