U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

أسـئـلـةُ السـوسـيـولـوجـيا

 

في كتاب "بركة الأولياء بحث في المقدس الضرائحي"
لعبد الرحيم العطري


يعتبر الكاتب والباحث عبد الرحيم العطري أحد المهوسين بالحرف والسؤال، وأحد الغيورين على الإبداع المغربي والمنتصرين لثقافته الوطنية. أصدر العديد من الكتابات السوسيولوجية منها: "صناعة النخبة بالمغرب"، "سوسيولوجيا السلطة السياسية"، "سوسيولوجيا الشباب المغربي"، "مدرسة القلق الفكري"، "صناعة النخبة بالمغرب" و"قرابة الملح".  

هو صاحب مشروع متنوع يروم من خلاله، النبش في الموضوعات السياسية والثقافية والاجتماعية، والحفرَ في المجالات المدينية والأحواز القروية، بهدف استقصاء تلك المظاهر والقضايا المثيرة التي تحتاج تفكيرا وتفكيكا. ولنا أن نتوقف قليلا عند كتابه "بركة الأولياء بحث في المقدس الضرائحي" لنتلمّس طبيعة الأفكار والأسئلة التي يعالجها.

في هذا الكتاب، وعبر ستة فصول متلاحقة، نلفي عبد الرحيم العطري منغمسا في موضوع يحبل بكثير من الأسئلة العالقة، يفتح من خلالها نقاشا هادئا حول البركة والأضرحة وطقوس الزيارة وعلاقة المقدس بالمعتقد الاجتماعي. فمنذ الفصلين الأول والثاني تتبدى أهمية الموضوع، بالنظر لما يتطلبه من جهد علمي، حيث التنقيب والتبويب، وما يتطلبه أيضا، من جهد ميداني، حيث المقابلات والحوارات. وهي أسئلة نظرية ومنهجية، في آن، تُيسِّر عمل الباحث وتقودُه إلى مجالات تطبيقية، عبر الفحص الوثائقي والرصد الشفاهي. من هذه الأسئلة ما تعلق بمفهوم الصلاح وكيفية انبنائه، بظاهرة البركة وآليات اشتغالها، بالعلاقات التي تربط المقدس بالمدنس، بأنواع الممارسات الضرائحية وصلتها بالرموز والطقوس. هي أسئلة وأخرى، حاول الباحث مقاربتها في تعددها وتنوعها، والإجابةَ عنها، ما استطاع إلى ذلك من فهم وتأويل. يقول: "أملا في تنزيل وتوصيف المقدس، نعمد إلى اعتباره دالا على أزمنة وأمكنة وممارسات وخطابات، رمزية ومادية، يتم تمثلها على نحو متعال ومفارق، يأتي فوق المدنس الدنيوي، يستند إلى الإلهي والديني في تفسيره واكتساب قوته التأثيرية." (ص34). ومعناه، أن التجربة الضرائحية مفتوحة على أبعاد دلالية ورمزية تتخفى وراءها الممارسات الفردية والجماعية، بما يفسح المجال أمام المجازات والاستعارات للمعتقد الاجتماعي.

وبالعودة إلى المصادر والوثائق التي عنيت بتاريخ مدينة سلا، يخص العطري الحديث عن عدد من الأضرحة والزوايا التي انتشرت في المدينة القديمة وأحوازها. فمدينة سلا من بين المدن التي كانت "قبلة الصالحين وخلوة الأولياء" منذ زمن بعيد. وفي هذا الصدد تم عرض مجموعة من أسماء الأولياء مع ذكر الأماكن والزوايا التي ارتبطت بذكرهم، فقد أحصى الباحث ما يقارب الخمسين وليا وعشرِ وليات وخمس عشرة زاوية. واللافت للانتباه أن كل سيد أو ولي، ممن ذكرهم الباحث، له من الفرادة والخصوصية ما يجعله مدعاة للتأمل والاندهاش، بالنظر لما يصدر عنه كرامات وخوارق.

وفي ذات السياق، يتساءل العطري كيف تُحجَب المرأة في حسابات الرجل، وتُقصى من الاعتراف بِما لديها، هي الأخرى، من قدرات وكفايات، وهو ما أسماه بالبركة المنسية. لذلك، لم يأل الباحث جهدا في الكشف عن بعض الأسماء النسائية اللواتي شُهد لهن بالوَلاية والصلاح كلالة شهبة ولالة ماماس وغيرهما. يقول: "ثمة إقصاء معلن ومضمر لتاء التأنيث من حقل الولاية، وحتى إن حضرت في الحقل التداولي للمقدس الأوليائي، فإنها تحضر أحيانا كمكمل (أكسسوار)، أو كموضع صراع وتنافس، أو أحايين أخرى، كبركة ثانوية وتدبير هامشي للإبراء والعلاج." (ص103)

وعن ظاهرة الكرامة والصلاح وما يصدر عنها من تصرفات تستوقف الناظرين، يؤكد العطري أن همه الأساس ليس إيجاد تفسيرات خطية وإنما محاولة لفهم علاقات المعنى. ومن ثمة، سيعرض لمسالك المتن الضرائحي ويتبين تنوعه ويستجلي خصوصياته التي تشكل مدخلا إلى هذا الفهم. ولعل حديثه عن وظائف الضريح تبرزُ أهمية هذا الأخير وتفسرُ سبب اعتقاد الناس في بركته وتبرر الطرائق المعتمدة في زيارته. يقول الباحث في وصفه: "فالضريح يعد المكان الفضيل للاستخارة وطلب المشورة وتأمين قضاء الحوائج، والفضاء المناسب لربط العهود والمواثيق فضلا عن كونه مؤسسة علاجية.. وما تضطلع به المؤسسة من قبيل السياحة الدينية والخدمات النفسية." (ص108) وهو ما دفع الباحث لاستخبار مجموعة من الوظائف المرتبطة بالمزارات، ذكر منها الوظيفة السيكولوجية والوظيفة التحكيمية والوظيفة السياحية والوظيفة الاقتصادية. يقول: "إن الزيارة كممارسة ترددية على المجالات المقدسة، وفي مقدمتها أضرحة الأولياء، تشير إلى عادة اجتماعية تتخذ طابع الضرورة بالنسبة للمجموعة، باعتبارها مؤشرا دالا على الانتماء إليها، وتأكيدا على احترام تقاليدها وقوانينها الرمزية." (ص113).

بالإضافة إلى ذلك، يعرض الباحث أنواعا عديدة من الممارسات والطقوس التي يقوم بها زوار الأضرحة في بعض المدن كآسفي وقلعة السراغنة ثم مدينة سلا. يقول: "إن المتن الضرائحي السلاوي الذي نتخذه ها هنا نموذجا للتفكير في حدود وامتدادات المقدس، يشكل سجلا سوسيوثقافيا متكاملا، يستلهم مقومات وجوده من دينامية دينية وتاريخية ومجالية وشعبية، تنبني على التعدد والتمازج، وترتكز بدرجة أعلى على المعتقد كمؤسس ناظم لأبنيته وعلاقاته وتفاعلاته." (ص 1208/121).

إن بحث العطري في خصوصيات المتن الضرائحي يروم بشكل أو بآخر، لفت الانتباه إلى الحاصل بين الفعل والتفاعل الاجتماعيين. ذلك التفاعل الذي يتداخل فيه الديني بالسياسي والاقتصادي بالثقافي. ولأن هناك خيراتٍ رمزيةً كثيرة تُجنى من المقدس والغيبي؛ فإن إعادة الإنتاج والجريَ وراء الإبقاء على صلاحيات وامتيازات الأضرحة من قبل الفاعل الاجتماعي، يصبح أمرا واردا ومبررا. يقول مثلا، في سياق هذا الحرص ونوايا أصحاب النفوذ: "إن المراقبة التي يمارسها الأعيان على مجالات المقدس داخل نفوذهم الترابي، هي ملمح مباشر لمعطى الاحتكارية الذي يمارسونه قبلا عليه، وهو ما يلوح في الحرص الدائم على النفاذ إلى كل طقوس ورموز وتجليات هذا المقدس." (ص123).

ومثلما كان الحديثُ عن الأضرحةِ وطقوسِها المختلفة وعلاقةِ الآخر بها، من خلال وثائقَ مكتوبةٍ أو شهاداتٍ مسموعةٍ، جاء الحديث عن الزوايا أو صلتها بالديناميات المجتمعية. فالزاوية أيضا لها رأسمال ديني وقدسي وسلطة رمزية تعمد القبيلة إلى التمسك به. يقول الباحث: "إن القبيلة في حاجة دائما إلى الزاوية، ليس من أجل تدبير حياتها الدينية، بل، وهذا هو الأهم، من أجل إثراء علاقاتها وتقوية حظوظ مواجهتها للسلطة المخزنية" (ص133). تبعا لذلك يصبح التمسك بالزوايا، بأنواعها المختلفة، بحثا عن سند روحي وسياسي في آن. وقد قدم الباحث نماذجَ متنوعةً لهذا التوجه بما في ذلك رصد علاقات الإدماج والتطبيع مع الزوايا من قبل المخزن واستثماره للسلطة الرمزية والدينية للشريف، حيث الوساطة والتحكيم القضائي والسياسي، وبالتالي تقديم الولاء والخضوع. يقول الباحث عن المتن الزاوياتي الذي اتخذه نموذجا للتفكير في حدود وامتدادات المقدس بأنه: "يشكل سجلا سوسيو ثقافيا متكاملا، يستلهم مقومات وجوده من دينامية دينية وتاريخية ومجالية وشعبية، تنبني على التعدد والتمازج وترتكز بدرجة أعلى على المعتقد." (ص140) وهو المعنى الذي ينتهي إليه العطري حيث التأكيد على دينامية الظاهرة الضرائحية وتميزِها بخصائصَ تتراوح بين الثابت والمتغير.

وبانتقاله إلى الفصل الخامس يواصل العطري رسم الملامح الكبرى للطقوس والممارسات المرتبطة بالمقدس الضرائحي وبركة الأولياء. ومن ثمة، الحديث عن ظاهرة الموسم/ المواسم، وصلة ذلك ب"البركة" و"الفرجة" و"الإطعام" و"الربح" و"التنافس" و"الوجاهة" وغيرها. يقول: "فالموسم أكبر من أن يكون مجرد طقس ديني عابر، إنه ممارسة سياسية واقتصادية تُبنى فيها، ومن خلالها الوجاهة الاجتماعية، وهذا ما يعنيه الأفراد جيدا، ويعملون على احترام أدائه واستمراريته، فالاجتماعي بما هو نتاج للمقدس، فهو إنتاج وتدبير له." (ص158).

ووصولا إلى الفصل السادس والأخير من هذا الكتاب، ينتقل العطري لرصد أنواع الطقوس السحرية التي تعتمل في المجتمع المغربي، من خلال استحضاره لثنائية المقدس والمدنس، ومن خلال استحضاره لمعتقد "العين" و"الجن" و"المكتوب". ولأن العمل النظري مرتبط بالدرس والتحليل، يفصل الباحث في الموضوع وفق عدد من النماذج والأمثلة، منصتا إلى شهادات المستجوبين والمبحوثين، وعلاقاتِ هؤلاء بالضريح والزاوية ومعتقدات المجتمع. يقول: "تسمح الضرائحية للسوسيولوجي والأنثروبولوجي تحديدا بقراءة الثابت والمتغير في الرموز والطقوس، والديناميات الاجتماعية التي تعرفها الزيارة واعتقاداتها، ما يجعل منها متنا غنيا بقراءة المجتمع، والنفاذ إلى "عقله" الجمعي." (ص198). وهو الخلاصة التي ينتهي إليها الباحث حيث الإشارة إلى عملية إعادة إنتاج القبيلة ولو على المستوى الرمزي، عبر تلك السلوكيات والممارسات التي تبرر وتمرر تحت مسميات مختلفة، كمواقف وشعارات.

عبر هذا السفر الثقافي، إذا، يأخذنا الكتاب إلى عوالم فسيحة من المتناقضات ومن العوالم المدهشة، التي تمس المجتمع المغربي عامة والسلاوي خاصة. فالبحث في الإرث الاجتماعي والتاريخي ممثلا في الظاهرة الضرائحية ومكونات بركة الأولياء، دعوة إلى الفهم أولا وإلى التفسير والتأويل ثانيا. ولم يتأت ذلك للباحث لولا حرصه الشديد على حسن تدبير مادته وتدبرها وفق آليات البحث العلمي وما يتطلبه عمل السوسيولوجي من دقة واطلاع على المصادر والوثائق ودراية بأصول البحث الميداني، دون إغفال المصادر الشفوية أو ما له صلة بعموم الثقافة الشعبية.

ختاما يبقى الباحث عبد الرحيم العطري، في هذا الكتاب وغيره، علامة مضيئة في المشهد السوسيولوجي بالمغرب وأحد الأصوات الثقافية المشرعة على البحث والسؤال؛ غير الأمر لا يتوقف عند هذا الحد من المقال، فهو القاص أيضا صاحب "الليل العاري" و"القارة السابعة"، وتلك متعة كبرى تستلزم مقامات أخرى.

+/ إحالات:  نص الورقة التي قدمت بمناسبة حفل تقديم وتوقيع الكتاب بالخزانة الصبيحية بسلا، من تنظيم جمعية أبي رقراق، يوم الأربعاء 27 أبريل 2016

 

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق