تنمُّ العناية التي حظي بها فن الملحون، في السنوات الأخيرة، جمعا وتحقيبا وتدوينا، عن دينامية ثقافية تروم لفت الانتباه إلى ما في هذا التراث الأدبي المغربي، من سمات جمالية وأبعاد إنسانية. كما أن مجموع الأبحاث والدراسات المتعاقبة، التي قاربت عوالمه النصية المختلفة، سابقا أو لاحقا، تجسد مكانته المرموقة بين باقي الأجناس التعبيرية الأخرى. ولأن لغة الملحون تعد الوسيط الرئيس بين الشاعر وموضوعه من جهة، وبينه وبين قارئه من جهة ثانية؛ فإن أهميتها لا تنحصر في كونها لغة الأم والمجتمع فحسب، وإنما باعتبارها لغة قادرة على منح مستعمليها إمكانيات جديدةً للتوليد والتعبير، على مستوى الصوت والمعجم والأسلوب والدلالة.
لقد وجد شاعر الملحون، في رحابة لغته اليومية، أو "لَـكْلام"
بلغة أهله، ما لا يُحد من الألفاظ والتراكيب لبناء المعنى داخل النص/القصيدة.
هكذا، كلما كان الشاعر مرتبطا بقضايا مجتمعه، الدينية والوطنية والسياسية
والثقافية أو غيرها، كلما كانت الحاجة إلى توظيف اللغة ضرورة لنقل المشاعر ووصف
المواقف والحالات. ومن ثمة، لم يكن عجيبا أن تُتداول، في هذا السياق، تلك العبارة
الشهيرة: "الملحون فراجْتو في كْلامو". لكن ما المقصود بالملحون؟ وما هي
وظيفته؟ وكيف تتحقق فرجته؟ أفي اللغة المنظوم بها فحسب؛ أم في الموضوعات المطروقة
أيضا؟ ثم من المستفيد من كل ذلك؟ هل هو الشاعر/الناظم أم المتلقي/السامع؟ وأخيرا
ما الغاية المستهدفة من إعادة الاهتمام بالتراث الشعبي وإحيائه؟ هي أسئلة، وأخرى
ضمنية، تتغيا ملامسة الأبعاد الفنية التي يزخر بها هذا اللون من القول الشعبي.
والواقع أن الحديث عن فن الملحون المغربي، من خلال ما
تراكم من نصوص ممتدة في الزمان والمكان، لا يستقيم دون أن نستحضر أعلامه المبرزين
ممن برعوا فيه، نظما وإنشادا. نذكر من بينهم أسماء بعض الرواد من قبيل: الجيلالي
امثيرد، أحمد الغرابلي، التهامي المدغري، محمد علي ولد رزين، سيدي قدور العلمي ومن
سبقهم زمنيا، بالإضافة إلى أسماء بعض الشعراء المعاصرين، على اختلاف انتماءاتهم
الجغرافية، ممن ساروا على الدرب وأجادوا أمثال الحاج أحمد سهوم. فما الذي يبرر
اختيار هذا الأخير من شعراء الملحون المغاربة؟ وكيف يتسنى الاقتراب من عوالمه الإبداعية؟
ثم إلى أي حد يمكن الإفادة مما طرحه من أفكار وتصورات تخص اشتغاله بالقصيدة
الملحونية الحديثة، مفهوما وممارسة؟
1- الشاعر وفن الملحون/ الكتابة
يمثل
الحاج أحمد سهوم (1936م/.... علامة مميزة في فن الملحون، بالنظر لما خلفه من
إنتاجات غزيرة جعلت منه مرجعا رئيسا في هذا المجال. فقد جمع الشاعر من الصفات ما
تفرقت في غيره. فهو الشاعر الناظم والمنشد البارع والباحث المحقق والدارس المحلل
والقارئ الناقد. والواقع أنه كرس حياته لخدمة هذا الفن، تعريفا وتأريخا، كما أنجز
فيه أكثر من مئة وسبعين قصيدة في أغراض مختلفة وقياسات متفاوتة[1].
ينضاف إلى ذلك، تنشيطه، ولا يزال، لسلسلة من البرامج والحلقات الإذاعية التي تعنى
بالشرح والتحليل وطرح القضايا ذات الصلة بالملحون شكلا ومضمونا.[2]
يقول محمد الفاسي معرفا بأحمد سهوم، إنه: "من
الشعراء المعاصرين، وهو من أهل فاس أصله من تافيلالت ويسكن بسلا، له طريقة في نظم
الشعر وإن كانت تتمشى مع قواعده كلها، وإنما يطرق بعض المواضيع الحديثة. وله إطلاع
واسع على الملحون ويتذوقه ويعرف تقديمه للجمهور في الأحاديث التي يذيعها بالتلفزة
المغربية."[3] ويقول عنه عباس الجراري
أيضا إنه: "من أشياخ فاس المقيمين في الرباط، كان له طوال سنة 1965 برنامج
يقدمه في الإذاعة بعنوان (ركن الأدب الشعبي استفدنا منه. وقد اطلعنا على بعض
الأوراق والتقاييد فأفدنا منها غير قليل من النصوص والمعلومات. وفيها وقفنا على
قصيدتين: إحداهما (محكمة الضمير والثانية (تحية مؤتمر القمة العربي الذي انعقد
بالدار البيضاء في سبتمبر من السنة المذكورة."[4]
وبين هذا التعريف أو ذاك، يقول عنه نور الدين شماس، في
إحدى مقالاته: "هو من أكبر شعراء الملحون على الإطلاق خلال النصف الثاني من القرن
الماضي. بزغ نجمه وذاع صيته حتى مل الافاق، غزير الإنتاج جيده، كتب في جل بحور
الملحون باستثناء بحر السوسي."[5]
أما هو، فيقول عن نفسه: "لقد تعلم أحمد سهوم داخل
السور بفاس القديمة، وبالضبط في حي مولاي عبد الله، المبادئ الأولى لحرفة الخرازة
في دكان الخراز محمد الطالب. وفي هذا الدكان كان يجتمع الناس من مختلف المستويات
والاهتمامات، يتبادلون الفن والعلم والأفكار الوطنية، وجديد الأخبار الدولية. في
تلك الفترة (بين سنوات 1945و1947 التحق أحمد سهوم بمدرسة القرويين.. لكن سلطة
الملحون عليه كانت قوية. فقد ترسبت في وجدانه كأمواج جارفة.. ولم يشعر طالب
القرويين إلا وهو محاصر من كل جانب بالملحون، يقرؤه ويفسره، باحثا عن مصادره
وروافده، منشغلا به إلى درجة التصوف."[6]
وانسجاما مع هذه الصفات والميزات المتعددة للشاعر أحمد
سهوم نسعى، في هذه المداخلة، إلى مقاربة مفهومه للكتابة والإبداع من جهة، وكيف
ساهم في تقريب فن الملحون من القارئ المغربي والعربي، من جهة ثانية، متوسلين
بنماذج من شعره.
تعود علاقة أحمد سهوم
بالكتابة، ومنها الملحون على وجه التخصيص، إلى زمن الطفولة والشباب، كما يقول، وما
رافق تلك المرحلة من انجذاب ظاهر إلى الفن والأدب. فإلى جانب حفظه للقرآن الكريم
حفظ الأشعار وتعنى بالقصائد غناء لفت انتباه أحد أبرز شعراء الملحون في عصره. وهو
إدريس العلمي الذي سيصبح، في ما بعد، شيخه المفضل في هذا المجال. ولعل السمة
المميزة لأحمد سهوم، باعتباره ناظما، تتجلى في توظيفه الأعراض الشعرية المتعددة
لخدمة المجتمع، في تطلعاته الإنسانية، وتسخيره الأبعاد الفنية المتنوعة لتطوير
الذائقة الأدبية. أما باعتباره، باحثا في التراث الشعبي، فإن مساهمته ظاهرة وجلية
في التعريف بأعلامه والارتقاء بنموذجه، من خلال ما أذاعه ودونه وأنشده. يشير في
مقطع من إحدى قصائده إلى فضل شيوخه عليه:[7]
هاك آمن يهوى قصيدات من
ابنات افكاري
صلوات الطيب الذكر
ومعاهم صفحات من كتيب
الأكوان اتساري
في الفلك القلب والفكر
واسلامي منسوم بالزهر
والورد ولقماري
للشرفا في الجاه والقدر
والعلما والمشايخ اللي
رفعوا مقداري
بمعارفهم ليهم الشكر
ولأن الوعي بالكتابة لدى
أحمد سهوم بدا مبكرا؛ فإن ولعه بالملحون قراءة ونظما جاء موازيا لرؤيته النقدية وتصوراته
الجمالية. وتجسيدا لهذا الولع فقد نظم في أغراض شعرية كثيرة منها المدح والغزل
والتوسل والوصف والهجاء، كما نظم في موضوعات أخرى تحفل بالحكمة والتأمل والعِبر،
ناهيك عن قصائده ذات المنحى الثقافي والفني. ولعل ديوانه الضخم يشهد بذلك، إذ يضم أكثر من مئة وسبعين
قصيدة في قياسات متفاوتة تنم عن موهبة أصيلة ومعرفة رفيعة بالمجال[8].
ويمكن أن نسوق شاهدا من ديوانه الضخم، يتعلق بأولى القصائد المثبتة به تحت عنوان
"أسماء الله الحسنى" يقول في لازمتها (الحربة): [9]
واقف لابْواب الله طالب التوبة والغفران **** ليّ ولكل
المومنين بجاه اسرار معاني
الأسماء الحسنى
وهي قصيدة تندرج إيقاعيا ضمن مكسور الجناح على قياس
(الاشراف الحسنين) للشيخ أحمد الغرابلي. عرض فيها الشاعر، بشكل بديع، لكل اسم من
أسماء الله الحسنى. ويظهر ذلك من خلال عنايته الفائقة بانتقاء الألفاظ واصطفاء التراكيب،
من أجل تقديم صورة مشرقة لعظمة الذات الإلهية. وبغض النظر عن المنحى الديني الواضح،
الذي تحفل به القصيدة والمعاني الصوفية التي تتخللها؛ فإن اللافت للانتباه أن
الشاعر حين استدعى قوافي القصيدة تفنن في توزيعها على سائر الأبيات، فكان أن توحّد
الحرف والإيقاع لبناء المعنى والدلالة. يقول: [10]
وهو يا سيدي ومن الأسماء من يصغى لي مؤمن
الخلق في احماه اتأمن ***** هو أعطاه باش تأمن *****
وعلى دعا العبد يأمن
كيف يخشى ومن من؟ ***** في أنس وجن ***** عبد مومن
والمومن لا غنى مآمن باينّه في حمى المومن إيجعل آماني
الأسماء الحسنى
فتكرار حرفي النون والميم وما يتميزان به من صفات كالجهر
والانفتاح والغنة والتوسط بين الشدة والرخاوة، بشكل بارز. وكذا تكرار بعض الألفاظ
بصيغ صرفية مختلفة (تأمن، يأمن، مآمن) وما ورد من جناس وطباق (إنس/جن، مَن/مِن) قد
ساهم في تشكيل حركية الإيقاع. ثم يمضي الشاعر في عرض باقي الأسماء والصفات الإلهية
متفكرا في خلقه تعالى سابحا في ملكوته متدبرا لقوته وجبروته، إلى أن ينهي القصيدة
في أطول قسم بها يدعى "السارحة"، بالصلاة على النبي وطلب عفوه وشفاعته
ويختم بالسلام على الأشراف والعلماء الشعراء بمن فيهم أهل الملحون. يقول: [11]
كنتوسل بمقامك المشرف
عند الديان
ومزاوك لك في كل ما تحبه
رغب الوحداني
يغفر لي نهنا
وسلام الله على اشراف كل
امكان وزمان
والعلما وهل الفنون
والشعرا عشراني
وعلى من يعنى
بالملحون أو ناسه
الطيبين ارجال او نسوان
والاسم أحمد سهوم
والقبول اد سيدي لوزاني
مفتاح الجنة
وفي هذا المقطع تبدو اللغة الموظفة قريبة جدا من فهم
وذوق العامة من القراء. غير أنه بالرغم من عاميتها، فإن الشاعر استعان ببعض
العبارات التي تتيحها اللغة العربية الفصحى، مع تحريفات طفيفة غير خاضعة للإعراب
وقواعد النحو (رُغْب= رغبة/ نَهْنا= أهْنأ وأطمئن/ كنتوسل= أتوسل/ هل= أهل..).
الأمر الذي يجسد العلاقة الجدلية بين العامي والفصيح، وبالتالي يبعد معنى
"الملحون" من دائرة الخطأ اللغوي. يقول أحمد سهوم: "نعم إن الدارجة
المغربية هي الابنة البكر -أي الأولى- للعربية الفصحى ولقد ورثت عن أمها سائر
مقومات التعبير العربي، وقيمه، وخصائصه وخصوصياته. إلا أنها تحررت وبصفة نهائية من
كل قيود النحو، وأصبحت لا يحكمها إلا "المنطق" الذي ينبثق عنها في
الاستعمال اليومي السريع، والذي يمكن أن نعتبره "فقه الدارجة المغربية"
ولغة هذه طبيعتها... لا يستساغ إبدا أن نعتبر آدابها مغلوطة أو مخطوءة."[12]
2- فن الملحون والمُنجـز/القصيدة
لا شك أن تردد لفظ كلمة الملحون، في نهاية القصيدة أعلاه،
أو في غيرها من القصائد، يعود بالأساس إلى عمق النظرة التي يصدر عنها أحمد سهوم في
تصوره للمفهوم وتمثله الإجرائي له داخل القصيدة ذاتها. أي مقاربته لفن الملحون
بالملحون. وفي هذا السياق، تستوقفنا لاميّة بها رصد لمفهوم الملحون وتبيان لوظيفته
ودلالاته. يتعلق الأمر بقصيدة (الألفبائية) المتألفة من دخول وتسعة أقسام متساوية
نسجت على قياس (الوصاية) للشيخ محمد بن علي ولد رزين، كما صيغت أبياتها على غرار
الترتيب الألفبائي لحروف المعجم، من الألف إلى الياء. يقول في لازمتها: [13]
ملحونا اتحدث عن نفسه
كال في اكلامه بلسان الحال
يا من اصغاوا أنا
الملحون فن مكمول
تشي هذه اللازمة، كما هو بيّن، بالغاية التي استهدفها
الشاعر. وهي غاية تنويرية وتثقيفية بالأساس، إذ تعرف بأحد فنون القول الشعبي من
جهة، وتؤسس لخطاب شعري له نكهته الخاصة من جهة ثانية. لذلك، فنحن أمام مادة لغوية (كلام)
ترسم لنفسها مساحات كبرى للتعبير عن الذات والمجتمع، من خلال تنويع في المعاني
والصور الفنية. فالشاعر تقصّد الحديث عن الملحون، باعتباره فنا ورسالة، له أصول
ومعايير ترقى به إلى مصاف الألوان والأشكال التعبيرية الأخرى. ومن ثمة، لا ينفصل
الملحون عن المعنى الاصطلاحي للشعر، من حيث هو "صناعة وضرب من النسيج وجنس من
التصوير" بتعبير الجاحظ.
وغير بعيد عن مطلب الفن وجودة الصياغة، يعمد الشاعر إلى
إسناد ضمير المتكلم إلى "الملحون" ليتحدث بلسان حاله عن نفسه بنفسه. وهو
إسناد يحيل، بصورة أو بأخرى، إلى البعد التفاعلي الذي تغَيّاه أحمد سهوم من زرع
الحياة في جسم الملحون كي يعطينا الانطباع بأننا أمام كائن حيّ قادر على التعبير
والتواصل. يقول في مقدمة القصيدة (الدخول): [14]
أنا فن ملحون امغربي
فايق الفنون اذ جمع الدوال
وعن اجناس القول انا
تنصول ونجول
البا برّ بيَ طول وهام
حب في شعب العقال
واعشقت سواق امعاني
للأفكار ومثول
وكل ما اتفرق في افنون
الناس كلها تفصيل او بجمال
جيت به العشاقي في
اروايع القول
أنا اللي ارسمت الطبيعة
بالألفاظ في اقصايد ليها بال
كي اوصفت اطباع اهل
الذوق وصف معقول
يتضح من المقطع أعلاه كون فن الملحون له من الخصوصية
الجمالية والهوية المغربية ما يضمن له ذيوعا وانتشارا معقولا، يطال فئات عريضة من
المجتمع، حيث يحصل التفاعل بين الناس بكل يسر وعفوية. غير أن طبيعة هذه اللغة ليست
بالسهولة التي تمضي بها نحو اللغو والإسفاف؛ بل هي لغة تثير أكثر مما تشير حين لا
تسلم في جماليتها التعبيرية. فالشاعر العامي، وهو يعبر بالكلمات، سرعان ما يرتقي
بمعجمه وصوره وأخيلته ابتغاء الوصول إلى الإمتاع والمؤانسة بتعبير أبي حيان
التوحيدي. وتأتي أهمية هذا الحس الإبداعي في ما يعرف بالمحسنات اللفظية والمعنوية،
وفي ما تلا ذلك من مستويات التضمين والاقتباس والتناص.
يقول أحمد سهوم في حربة قصيدة بعنوان (شعر عن الشعر):[15]
شف الشعر أصاح كيف واتاه التاج وكيف جالس على عرش
التعبير
ها هو في قبة النصر **** وفنون القول في احضرته أُمارا
وهي قصيدة صيغت وفق تصور جمالي ينطلق من كون الشعر حالة
وجودية للتعبير عن مختلف الأحاسيس المرتبطة بالعقل والوجدان. لذلك تراه، في غير ما
قصيدة، يلح على اعتبار الملحون نموذجا للارتقاء بالذوق العام، لغة وبناء ودلالة. فثمة
ما يفيد أن شاعر الملحون لم يأل جهدا، وهو يبدع القصيدة ويحاورها، في تجويد اللفظ
وتجديد المعنى بما يتناسب وطبيعة الغرض. يقول:[16]
وانهاية قولي الشعر نفحة من عالم الخلود لو جات العمر
قصير
إيعمر ما طايل الدهر **** أو في الملحون بنسليمان إيمارة
هاك أراوي شعر عن الشعر وكما هو الشعر ما شي ولد التفكير
وما شي في الخاطر يخطر **** في المهجة فاين المنابع
همارة
قلب يحب الشعر قلب راقي ذواق ارهيف قلب نوراني قلب اكبير
يتاسع لله في الكبر **** عسا الخلق على الأرض السيارة
هكذا،
حق للملحون أن يفتخر بكونه جمع ما تفرق في سائر الفنون، وأنه شغل الأذهان والعقول،
وقدم نصوصا فائقة الجمال في موضوعات مختلفة، أبهرت متلقيها ودفعتهم لتوثيقه
وتدوينه. فكلما تمرس شاعر الملحون باللغة ووظائفها الشعرية المختلفة، كان قادرا
على إيقاظ مشاعر المتلقي والتأثير في نفسيته. وهذا الشعور، في الأصل، نابع من تلك اللذة
الصادرة عن المشاعر قبل الحواس. وهي لذة معنوية/ شعرية يطلبها المتلقي المفترض لأي
نص فني أو أدبي. وكما تنشأ اللذة من الحزن ومن الفرح، تنشأ أيضا من الرضى والقبول،
بتعبير الجرجاني.
وعودة إلى القصيدة (الألفبائية)
واعتبارا للقيمة الاعتبارية للملحون، يقترح أحمد سهوم لحرفي الجيم والحاء معنى
جديرا بالتأمل والإنصات يتجلى في قوله:[17]
الجيم
جل من جاعلني ديوان دونوه احبابي في اسجال
وثقوا
في اسطوره معقول جنب منقول
فيه
الكتاب فيه السنة فيه الأقوال ذا السادات الكمال
فيه
تاريخ الأمة حول لاحق ابحول
الحا
احرام يا ناسي وحشوما وعيب نتعامل بالإيهمال
بعد
ما كنت أنا فن الحلي والحلول
أنا
اللي انحث الفاظ اللهجة العامية في اسنين طوال
ودرت
ليها القواعد كاملة والأصول
وهي إشارة ذكية من الشاعر إلى تأكيد
القيمة التاريخية والرمزية لفن الملحون. فهو بمثابة ديوان المغاربة، فيه دونوا
أخبارهم وأسرارهم ومجدوا تراثهم وأعلامهم. لذلك، لم يكن غريبا أن تكون الدعوة إلى ضرورة
حفظ الملحون بوصفه ذاكرة الأمة وماضيها الذي ينبغي أن يتعايش مع حاضرها، ليس من
باب التمجيد فحسب؛ وإنما من باب المحاورة والمجاوزة. وهكذا دواليك، مع كل حرف من
الحروف الألفبائية، نقف أمام صور ودلالات عميقة تقربنا من الملحون ومن عوالمه
الفسيحة. فالملحون، كما عبر عن نفسه، اعتنى باللغة العامية وهذبها وطور قواعدها
خدمة للموضوع والمضمون الجديدين.
والواقع أن بعض قصائد الشاعر قد تستعصي، رغم عاميتها،
على فهم القارئ والمستمع البسيط، إذ تحتاج إلى شرح معجمها وتفسير دلالتها. وهو ما
يعني أن الملحون ليس مجرد كلام دارج تقريري مباشر؛ بل هو كلام يصدر عن شاعر متمكن
من لغته اليومية المتداولة وعارف بالتغيرات التي تنتج عن تفاوت البيئات اللغوية
الأخرى. والشاعر بالرغم من أميّته أو حرفيته، فهو يمتلك، بشهادة النص/ القصيدة،
حسا لغويا متجددا مثلما يمتلك مخزونا واسعا يستدعيه كلما ارتضى ارتقاء فنيا.
وأما عن أحرف الخاء والدال والراء والطاء، فيقول:[18]
الخا اخفا اخيالي وظهر حالي في روح القصيدة والموال
ولا إيراني إيلا من ليه ذوق لا تركوا امجال
الدال دان داني يا داني دان درتها دندنات لافعال
تايوازنوا بها القياس كيف معمول
الرا الروح والراحة وارتياح في اعراصي ما كتبدال
ريها من حياضي في اجميع الفصول
الطا اطالوا عن قصداني في الربيع واسرارب تا اتكال
والنحل فيها برشيف الرحيق مشغول
يبدو جليا أن اللغة، في مثل هذا
المقام، تشكل "وسيلة من وسائل الشاعر لنقل أفكاره وبث مشاعره ووجدانه. فكلما
اتسعت الرؤية الفنية لديه كلما احتاج للنهل من ينابيع اللغة، بما تشمله من مفردات
وتعابير وبما تقتضيه من مجازات وتخييل. لغة لا تقف عند حدود الضوابط القاعدية حيث
الدلالة المعجمية القريبة من اللسان المستعمل (الدارج)؛ وإنما تتجاوزها صوب ابتكار
بدائل وصيغ تعبيرية جديدة، قد تستفيد من عوالم لغوية خارجية أو من ثقافات أجنبية
مغايرة. وانطلاقا من هذا التواشج اللغوي والثقافي الإنساني يتم توجيه القارئ
المتلقي، من خلال النص الإبداعي المقترح، إلى طبيعة الخطاب المفترض."[19]
ومن ثمة أمكن الحديث عن طبيعة الموضوعات التي تشكل إلى
جانب اللغة لحمة الملحون. موضوعات تفنن الشاعر في طرقها وتقاسمها، مع الآخر
الشعري، وفق تراكيب وأساليب تستدعي إعمال الفكر وتجديد الذوق. ولا شك أن تخصيب
اللغة يتم من خلال إدراج مفردات من حقول معجمية مختلفة تقوي دلالة القصيدة.
فالطبيعة هنا، مثلا، حاضرة بقوة عبر مفردات (اعراصي، حياضي، الفصول، الربيع،
النحل)، مثلما هو حضور الجسد بحواسه عبر مفردات (دان داني، الارتياح، الري، اتفججوا،
اطالوا، تا اتكال، الرحيق). فإن بدت في النص مناطق غامضة، فلأنها "هي ما
يستنفر وعي المتلقي ويذهب به بعيدا في تاويل الملفوظ. فالغموض مطلوب في بعده
الدلالي والإيحائي ما دام الوضوح ملل كما يقول الرومانسيون."[20]
ثم يواصل الشاعر، في المنحى ذاته:[21]
الميم مرحوا الأهداب في الجبال عاملا شال على شملال
فوق من القمايص ذا الصوف كيف منزول
النون ناسنا ناس الجد اللي امرسمين واللي رحال
في المصار والنجوع اهل السخا المبدول
الصاد صول يا مغرب الشرفا احجاب سترك في الاسرار الآل
صايناك اسلالة بنت النبي البتول
وهو ما يعمق ما ذهب إليه أحمد سهوم من توثيق هذا الفن،
والإشادة بناسه وأهله. فهم دائمو البحث عن المعنى، سواء منهم من استقر في المكان
أم من يتنقل في المرابع. فالشموخ والجد والإباء والفراسة، فيض من غيض صفات هؤلاء
المنتمين إلى (مغرب الشرفا). ولكي يُجمع الشاعر ما تناثر من أفكار وما بثه من معان،
على لسان الملحون دائما، يجدد التنويه بهذا الفن والإشادة بأهله وصنّاعه محيلا إلى
ما تختزنه القصائد والأشعار من حكم ورسائل وأمثال ومن علوم وفنون وآداب. يقول:[22]
همزا آل طه هم اهل المجد والفضايل واهل التبجال
منهم احبيب الأمة اشريف الأصول
ارضات ربنا عن سادتي والسلام لأهل العلم وعمال
واسمي ما يخفى ملحون صال ويصول
وعلى غير العادة، لا يختم الشاعر قصيدته بذكر الاسم
(أحمد سهوم)، ولكنه يستبدله بمن خصه بالحديث عن نفسه بنفسه وهو (الملحون) الحاضر
بكامل عنفوانه وكينونته (صال ويصول).
3- فن الملحون والذائقة الأدبية/ التلقي
إذا كان فن الملحون قد استطاع الصمود لقرون في أن
يحافظ على مكانته بين فنون القول الشعري الشعبي؛ فإن التحولات التي عرفها المجتمع
الثقافي المغربي، على مستوى التلقي والكتابة، اقتضت أن يعاد
التفكير في نظرتنا إلى التراث. فالتعصب للقديم أو للحديث أمر لا يجدي إذا خلا من
حكمة وتروّ. فكل قديم كان جديدا في عصره وكل جديد سيؤول إلى القِدم لا محالة. ولا
شك أن أحمد سهوم، في اشتغاله على فن الملحون كان يراهن على ما في هذا الفن من
إبداعية وتجديد، فظل يسائل النصوص ويقارب أشكالها ومعانيها انطلاقا من رؤية منهجية
تبحث في المناطق الخفية التي لم تكتشف بعدُ في هذا التراث الشعبي. ولعل ما يعكس
منزعه التنويري قصيدة تحت عنوان (رسالة
إلى الشعراء)، يقول في لازمتها:[23]
يا كاتب
البرا للشعارة **** إلا اختمتها غلفها وسير بها سير
دق على
الشيخ في داره **** واقرا عليه دا المسطور
وفي هذه القصيدة يلفت أحمد سهوم
انتباه شعراء الملحون إلى الاهتمام بالموضوعات المجتمعية إسوة بمن سبقوهم من
الأشياخ حيث الدعوة إلى ترسيخ القيم ومكارم الأخلاق. والقصيدة عنده قائمة على عرض
نماذج من المشاهد الاجتماعية التي تستدعي تضامنا وتحريضا على معالجتها بما يليق وحقيقة
الذات الإنسانية. فالاهتمام بموضوعات الوطن والطفولة والشباب والمرأة والفقر وما
إليها ضرورة أخلاقية تعكس مدى تفاعل الشاعر مع محيطه. وهي دعوة مردها ما لاحظه من
ابتعاد قصيدة الملحون عن واقعها وواقع صاحبها. لذلك انتقد شعراء اليوم ووصفهم بالثرثرة
والتقوقع في موضوعات مكرورة، ثم دعاهم للعناية بتجويد القصيدة معنى ومبنى، كما في
قوله:[24]
نظموا ازمان شعر الخمارة **** قل
للشيخ يعف من الشعار ذا التخمير
واتغزلوا اكثير وداروا **** عدرات
جنسنا كالحور
وريه كيف كانوا شمارة **** وحننوا
القلوب على بعضها في شعر غزير
والقول غاية اختصاره **** كانوا
امصابح الديجور
أو في مثل قوله:[25]
ورّيه صورة امراة مسرارة **** مات
ليها واليد ولادها في يوم امطير
ولا لقات في تدخاره **** لا عيش
لا كسا لا نور
إيلا اديون عند الكزارة **** ومول
الفحم والبقالة الناسيين الخير
الماجيين في تقباره **** بحساب
فرضهم محسور
وادموع عين مرتو قطارة **** والأطفال
الا يعرفوا ما جرى علاش ايصير
الكبير زايغين بصاره **** واللي
صغيرهم مقهور
والصايرة الحرة محتارة **** والعزا
قايم واهل الدين قايمين اهدير
والشيخ دا اللغا في داره **** ناسي
الكون والمعمور
إنه مشهد من مشاهد الحياة
الاجتماعية، حيث الحالات الإنسانية الحرجة التي تستوجب التفاتة وعطفا تكريما لبني
البشر. وهو مشهد يذكرها بمعاني قصيدة معروف الرصافي (الأرملة المرضعة). وقس على هذا
المعنى، في باقي أقسام القصيدة؛ بل وفي ديوان الشاعر ككل، حيث تحضر موضوعات من
قبيل (الغلاء، والوباء) وما إليهما. فغاية الشاعر/ الناقد أن يظل شعراء الملحون قريبين
من واقعهم اليومي حريصين على خدمة الغاية الإنسانية، دون أن يفرطوا في جودة
التعبير والكتابة. فاللغة العامية بطبيعتها خصبة وغنية غنى مناطقها (شرق/ غرب
وشمال/ جنوب) ويحسن الإفادة من هذا التعدد والتنوع اللغوي. هكذا حين يتوحد اللفظ
والمعنى في حلة تعبيرية بديعة نكون أمام نص قمين بالقراءة والحفظ والإنشاد.
أما قصيدته (ركبوا الهوى وهواو)[26]
فتكشف، من جديد، عن الجانب النقدي في مسار الشاعر أحمد سهوم. نقد تمثل في إشارات
شعرية تعرض لبعض ما أصاب الملحون من تراجع وتقهقر، جراء حداثة زائفة وتفريط في مجد
القصيدة. يقول في قصيدة واوية، حربتها:[27]
ركبوا الهوى وهواوا **** والراكب
الهوى هاوي
ساب التسيب ما ابقى منه ما نخفيوا
**** وعمّات البلوة
ولهذا السبب، عمد سهوم إلى
تسليط الضوء على هذه المرحلة، رغبة منه في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقد تجلى ذلك في
إظهار انتصاره لإقامة منظمة شيخ الأشياخ، بديلا عن الجمعية أو الرابطة من جهة،
وإعلان انحيازه إلى القصيدة كما سطر لها الرواد حيث اللفظ والمعنى ينتظمان في
تناغم وانسجام من جهة ثانية. لكن ما الذي حذا بالشاعر إلى نظم هذه القصيدة؟ ولم
جاءت لغته آمرة قاسية (المسخ، الجفوة، الفجوة، الخاوي، البلوة الغناوي، الغفوة،
التسيب وغيرها؟ ومم يستقي هذه السلطة للحديث باسم الملحون؟
يبدو أن الشاعر، في هذه
القصيدة، كان ميالا إلى الإبداع من حيث سطوع الكلمة وعذوبة المعنى، لذلك لم يكن
غريبا أن يناصر القصيدة الملحونية الأصيلة لما تنماز به من فنية. يقول:[28]
يا ذوك أو ذوك اصغاوا **** فصل
الخطاب في واوي
المنظمة ذ شيخ الأشياخ أو لا
نلغيوا **** هاذا الفن الدهوة
هما يا ما غنّاوا **** على وتر
مساوي
عز الأصالة ومجدها واليوم
ايغنيوا **** هاذوا عن شي بلوى
وانسجاما مع المنزع النقدي الذي
ركبه أحمد سهوم، بوصفه معنيا بحقل الملحون، يوجه انتقاده لأولئك الشعراء الذين
عاثوا فسادا في القصيدة باسم الحداثة، والحداثة منهم براء. ومن ثمة، فقد انبنت
قصيدته على محورين اثنين: أحدهما في مدح القصيدة المتوسلة بمقاييس الملحون بأبعاده
المختلفة. وثانيهما هجْو لمن أساء لماء الشعر وحال دون اعتبار لرسالته الإنسانية.
وهو في ذلك يصدر عن رؤية فنية خاصة
بالشعر ونظرة متأنية لمفهوم الكتابة بشكل عام. فالكتابة، في نظر سهوم، لا تتم إلا
عبر الإنصات والقراءة ثم الدراية والارتواء، فلا استسهال في الكتابة، ومن يأتيها
لا بد أن يمتلك أدواتها ويفقه قوانينها. لذلك لم يفوت الشاعر/الناقد أحمد سهوم
فرصة الانكباب على قصيدة الملحون وسبر أغوارها الفنية واللغوية. يقول: [29]
الحداثة شتهاوا **** شتهاوا
امسخ لحضاوي
وهي اللي جرتلاتنا ما عدنا
نجديوا **** المسخ ماليه ادوى
الرياض اتلاشاوا **** بين
المدبال أو لاوي
الحياض اللي منهم كنا كنشكيوا ****
شحفوا من بعد اروى
بالأصالة نحياوا **** في
الحداثة الفناوي
ما بين التجديد والتحديث أمن
يرويوا **** بعد اللا يتطوى
ها الاحباب اتجافاوا **** ها هم
جبدوا الجناوي
ها هما تيغيزوا بهم ويو ويو ****
الحداثة جفوة
آش ابقينا نسواو **** وكثيرتنا
منزاوي
الحداثة شردمتنا وبدينا نرخيوا
**** قبضتنا في التقوى
هكذا جاءت منافحة أحمد سهوم عن قصيدة الملحون
منتقدا خصومه ممن ركبوا الحداثة التي أساءت إلى الإبداع وساهمت في نفور المتلقي.
وإذ ينبه إلى مزالق الشعراء الجدد وما راموه من نظم يفتقر
إلى الحس الجمالي المطلوب، فبغاية التصدي لمثل هؤلاء حيث جهل بعضهم لأسرار هذا
الفن وافتقداهم لتصور يروم إنعاش الحركة الثقافية الوطنية.
غير أن دفاعه عن القصيدة في صيغتها الموروثة لم
يكن من باب تقديس التراث الشعري وتمجيده؛ بل تقديرا لجهود السابقين من ناحية،
وتمثلا لإبداعيتهم الفائقة التي جاوزت الزمن من ناحية ثانية. ويمكن بسط زاويتي
النظر إلى الاتجاهين، كما قدمتهما القصيدة، في جدول توضيحي مختصر.
|
سمات أنصار القدامة |
عيوب أنصار الحداثة |
|
ü أهل
تقوى ü أصحاب
فن وسجية ü أصالة
وريادة ü عز
ومجد ü مشيخة ü منافسة ü عزف
مساوي ü فن
ضاوي |
ü
أهل جفوة ü
غرور واستعلاء ü
انزواء وتفرقة ü
استهانة بالسابقين ü
استسهال الكتابة ü
تقاتل وتناحر ü
ابتغاء اللاجدوى ü
فناء ومسخ |
أمام هذا الوضع الشعري، لا يخشى أحمد سهوم من
الجهر بموقفه الفني من الملحون ومن شعرائه، بإعلان تصديه لكل من يسعى إلى إتلاف
القصيدة أو المضي بها نحو المجهول. وفي المقابل يفصح عن مدى انحيازه الكلي للقصيدة
المحبوكة، لغة وموضوعا وإيقاعا وبلاغة. يقول في آخر القصيدة:[30]
واسلامي
كي يرضاوا **** في اصباحات وعشاوي
ناس
العلم وهل الفن من لا زالوا يحييوا **** مجد اعهود الصفوة
ويلا
سالوا وسلاوا **** قولوا ذاك الهداوي
ذاك أحمد
سهوم ذاك من لا عادوا يبغيوا **** وكان الهم عزوى
وتلك
عادة شعراء الملحون حين يختمون قصائدهم بالتسليم والدعاء والشكر، وأحيانا بالقدح
والنيل من الأعداء، مع توقيع الاسم تارة بالحرف وتارة بالحروف.
4- عودة إلى فن الملحون/السيرة
لقد كان الحاج أحمد
سهوم، ولا يزال، مهووسا بفن الملحون مشغولا بفكرة تثمين ما أنجز من نصوص، على
فترات زمنية مختلفة، وما طرح حولها من قضايا تمس الشكل والمضمون معا. ولعل في الأمثلة
السابقة ما يؤكد انسجام الشاعر مع نفسه. فالوعي الثقافي عنده ظل موازيا لوعيه الجمالي،
فكان أكثر إقناعا وإمتاعا.
وبغاية تقريب المتلقي من عالم الملحون وتجديد
صلته بمعاييره ومعانيه، نصادف قصيدة أخرى تعيد التذكير بأهم الخصائص التي تميز فن
الملحون وتقدمه مادة دسمة للبحث والدرس والتحليل. يقول:[31]
فن
الملحون فن ساني **** ساطع في ساير لزمان **** فيه الحكمة على لوان
فن
الملحون فن باني **** ما يهدم يا سيادنا
بالتصوير
الرفيع غاني **** واستعارات كاتبان **** تنظرها ساير لعيان
والتشبيهات
يا خواني **** سلبت لينا ذهانا
أما
اللفاظ والمعاني ****خلاص تحير لذهان **** او تطرب كل إنسان
خفقت
بجنانها كناني **** صالت بها بلادنا
فن
الملحون فن غاني **** بالدين الناسخ لديان **** والوعظ يسرح لدهان
حتى
لرواح في البداني **** متعها في وطانا
والتسليات
للحزاني **** ما تخلى منها وزان **** والحب متيه لكنان
أواه أيا
اللي صغى لي **** صافي وانقى فننا
وهلوا في
ساير لزماني **** ناس الطيبة في كل آن **** فيهم العطف والحنان
أميين
لكن الغاني **** اوهبهم علم ما فنى
وهي قصيدة جامعة، على قصرها، تطفح بكثير من الإشارات
القوية إلى العلاقة التي ينسجها الشاعر مع الذات والموضوع، من خلال التوسل باللغة
والإيقاع والخيال. وكأن أحمد سهوم يجيب سائلا فيقول إن الملحون، من جهة الاصطلاح،
يجمع بين ميزات كثيرة منها: الفن، السمو، البناء، الحكمة، الغنى، الطرب، الصولة،
الصفاء والغنى. والملحون من زاوية الأداة، يتوسل بوسائط تعبيرية عديدة منها:
التصوير والاستعارة والألفاظ والمعاني، بالإضافة إلى الوزن والإيقاع. والملحون
باعتبار الأغراض، يقوم على اختيارات موضوعاتية متنوعة منها: الوعظ والإرشاد والتسلية
والمتعة والحب وغيرها. أما من ناحية القول فوراء الملحون ناظم أمّيّ؛ لكنه لا يعدم
موهبة وفنية وطيبة وتسامحا.
يتبين مما سبق، أن الحاج
أحمد سهوم يمثل نموذجا حيا لاعتداد الشاعر المغربي بموروثه الشعبي ومدى إسهامه في
نفض الغبار عنه من خلال إعادة إحيائه وتجديده وفق نفس إبداعي مغاير يستند إلى حاضر
الملحون، تفاعلا وحوارا. وقد جاء هذا المسعى في سياق ثقافي لا يتعلق بتوجيه أو
إملاء لشروط الكتابة الشعرية باللغة العامية بقدر ما يعبر عن غيرة وطنية على هذا
الفن تروم تحصينه ونشره وترويجه. فشعر الملحون ضارب في عمق التاريخ وينبغي أن تكون
العودة إليه من باب الإفادة والتجديد وربط ماضيه بالحاضر والمستقبل أيضا.
لقد سعى أحمد سهوم، في
مساره الشعري والبحثي، إلى تأكيد القيمة الأدبية والرمزية لفن الملحون، معتبرا
إياه رافدا من روافد الثقافة المغربية ورافعة أساسية للتنمية البشرية. ويمكن، تأكيد
هذه النتيجة من خلال العودة إلى القصائد المنشورة والمسموعة، وهو أمر لا يستدعي
سوى إنصات عميق بعيد عن الأحكام المسبقة أو المطلقة.
إجمالا، يمكن اختزال
سيرة الملحون في:
v
تحصين التراث والذاكرة
v
ترسيخ الذات والهوية
v
توثيق الأحداث والوقائع
v
تثمين الثقافة والأدب
v
تهذيب الأخلاق والسلوك
v
نشدان الفن والجمال
v
ترويض اللغة والخيال
v
تطوير الكتابة الإبداع
ولا ريب أن أحمد سهوم باق على العهد، ما بقي في العمر من
رمق، إذ لا أحد يشفيه من حب القْصيدة سوى القْصيدة في تداعياتها المختلفة. فاستمع
إليه في (ترنيمة سهومية) كيف يختم القصيدة بقوله:[32]
|
اوْفي اتْمام اليَلْهامْ اللاّهْمُه انْساكْ |
|
مسكْ الختامْ ايطبْعوا ليكْ بكْ فيكْ |
|
اخـتـمـتْ هــذي نَـبـْـدا
دابـَـة انـظـيـمْ ذيـــكْ |
||
وللسيرة بقية..
بيبليوغرافيا
×
أحمد زنيبر. مديح الصدى دراسات في أدب الغرب
الإسلامي. دار التنوخي بالرباط. 2011
×
أحمد سهوم. الديوان.
مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 2018
×
أحمد سهوم. الملحون المغربي. منشورات شؤون
جماعية. ط3/ 1993
×
عباس الجراري. الزجل في المغرب القصيدة. مطبعة
الأمنية الرباط 1970
×
عبد الحميد هينة. الصورة الفنية في الخطاب الشعري
الجزائري. اتحاد الكتاب الجزائريين 2003
×
مجلة التراث المغربي الأصيل. العدد السابع. 2019
×
محمد الفاسي. معلمة الملحون ج2 ق2. مطبوعات
أكاديمية المملكة المغربية. الرباط 1992
[1] - أحمد سهوم. الديوان.
مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 2018
[2] - قدم الشاعر عددا من
البرامج التي تعنى بالملحون على أمواج الإذاعة الوطنية المغربية من بينها: ركن
الأدب الشعبي، إطلالات على التراث، الألفبائية وغيرها.
[3] - محمد الفاسي. معلمة
الملحون ج2 ق2. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية. الرباط 1992. ص351. ديوان أحمد
سهوم. ص34
[4] - عباس الجراري. الزجل في
المغرب القصيدة. مطبعة الأمنية الرباط 1970. ص.ص683-684. ديوان أحمد سهوم.
ص33
[5] - أحمد سهوم. الديوان. ص40
[6] - أحمد سهوم. الملحون
المغربي. منشورات شؤون جماعية. ط3/ 1993. ص8
[7] - أحمد سهوم. الديوان.
ص261
[8] - أحمد سهوم. الديوان.
مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 2018
[9] - أحمد سهوم. الديوان. ص63
[10] - أحمد سهوم. الديوان. ص65
[11] - أحمد سهوم. الديوان.
ص.ص94-95
[12] - أحمد سهوم. الملحون
المغربي. ص230
[13] - أحمد سهوم. الديوان.
ص485
[14] - أحمد سهوم. الديوان.
ص485
[15] - أحمد سهوم. الديوان.
ص453
[16] - أحمد سهوم. الديوان.
ص455
[17] - أحمد سهوم. الديوان.
ص486
[18] - أحمد سهوم. الديوان.
ص.ص486-487
[19] - أحمد زنيبر. اللغة
والخطاب الوعظي في شعر الملحون. مقال ضمن أعمال ندوة حول معجم معاجم ديوان فن
الملحون. مجلة التراث المغربي الأصيل. العدد السابع 2019
[20] - عبد الحميد هينة. الصورة
الفنية في الخطاب الشعري الجزائري. اتحاد الكتاب الجزائريين 2003. ص79
[21] - أحمد سهوم. الديوان.
ص489
[22] - أحمد سهوم. الديوان.
ص492
[23] - أحمد سهوم. الديوان.
ص447
[24] - أحمد سهوم. الديوان.
ص448
[25] - أحمد سهوم. الديوان.
ص449
[26] - الديوان ص467
[27] - أحمد سهوم. الديوان.
ص467
[28] - أحمد سهوم. الديوان.
ص468
[29] - أحمد سهوم. الديوان.
ص.ص468-469
[30] - أحمد سهوم. الديوان.
ص470
[31] - قطعة تغنت بها مجموعة
جيل جيلالة. كما أداها المرحوم الحاج الحسين التولالي على أمواج الإذاعة الوطنية.
[32] - أحمد سهوم. الديوان.
703

إرسال تعليق