U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

التاريخي والموسيقي

 في كتابات عبد العزيز ابن عبد الجليل


يعد الكاتب عبد العزيز ابن عبد الجليل أحد الأسماء اللامعة في مجال البحث الموسيقي بالمغرب. تشهد له مجموع الكتابات العلمية التي نشرها، على فترات زمنية متفاوتة، وكذا مشاركته في محافل ومؤتمرات موسيقية مختلفة. ولعل ما أهداه للخزانة الموسيقية، العربية منها والمغربية، من كتابات وأبحاث، ينم عن خبرة وموسوعية في المجال. فهو لم يحصر اهتمامه، خلال مسيرته البحثية، بالتاريخ والتحقيق الموسيقي فحسب؛ وإنما امتد نشاطه للتنظير والممارسة. 

نذكر من مؤلفاته (مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية 1983، الموسيقى المغربية الأندلسية 1988، معجم مصطلحات الموسيقى الأندلسية المغربية 1992، المشترك في مجال النغم والإيقاع بين المغرب والشعوب الإفريقية المجاورة 1995، الأناشيد الوطنية ودورها في حركة التحرير 2005، أناشيد الحركة الكشفية بالمغرب 2012، بالإضافة إلى تحقيقات علمية منها تحقيق كتاب "إيقاد الشموع للذة المسموع بنغمات الطبوع" لمحمد البوعصامي 1995، وكتاب "أغاني السقا ومغاني الموسيقى أو الارتقا إلى علوم الموسيقى" للشيخ ابراهيم التادلي 2011. ثم كتاب "من مظاهر تطوير النظرية الموسيقية العربية" الصادر عن منشورات وزارة الثقافة 2013. ويهمنا في هذه المداخلة أن نقدم قراءة في هذا الكتاب باعتباره كتابا يسلط الأضواء على جوانب مهمة من تاريخ الموسيقى العربية ويكشف، تبعا لذاك، طبيعة الكتابة لدى المؤلف. فماذا عن هذا العمل؟ وما هي دوافع التأليف؟ وكيف يحضر المنهج العلمي، في ثناياه، بين التاريخي والموسيقي؟

لا يحتاج الأمر إلى تأكيد إلى أن هذا الكتاب يندرج ضمن مشروع الباحث عبد العزيز ابن عبد الجليل في مجال الموسيقى، حيث يعرض من خلاله لأهم القضايا التي شغلت بال المهتمين بالموسيقى ودفعتهم للكشف عن خباياها والغوص في أسرارها، من خلال النبش في تاريخها القديم من جهة واستشراف آفاقها المستقبلية من جهة ثانية. ومن ثمة، الدخول في محاورة أصحابها محاورة تنسجم والتحولات التي تعرفها الساحة الثقافية الحديثة في مجال الموسيقى، تأليفا وتنظيرا، تلقينا وممارسة.

يقع الكتاب في أربع مائة وخمس وخمسين صفحة، ويضم ثمانية أبحاث مستقلة، شارك بها الباحث "في دورات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية التي دأبت دور الأوبرا المصرية على احتضانها منذ عقدين في مستهل نونبر من كل سنة." (ص3). والملاحظ أنها أبحاث تنوعت عناوينها بتنوع الموضوعات وتفاوتت صفحاتها بتفاوت طبيعة البحث ونوعية الاشتغال. غير أنه رغم هذا التفاوت الملحوظ على مستوى الموضوع والمعالجة؛ فإن ما يوحد بينها رؤية ومنهجا، يجعل عنوان الكتاب "من مظاهر تطوير النظرية الموسيقية العربية" اختيارا مبررا. يقول المؤلف: "ولعل من جميل الصدف أن يلتقي النهج الذي اختاره مؤتمر دار الأوبرا في تناول موضوع تطور الموسيقى العربية مع التوجه الذي طبع كتاباتي منذ أن وطنت نفسي على النظر في قضايا هذه الموسيقى، ومن هنا تأتي الدراسات التي يضمها هذا الكتاب لتشكل حلقة أخرى تندرج في مشروع أعمالي الهادفة إلى التعريف بالتراث الموسيقي العربي في مختلف مواقعه ومحطاته." (ص4)

يُستشف من هذا التقديم أن الباحث مدرك قيمة الاهتمام بالجانب الموسيقي، وواع تمام الوعي بما يمكن أن يحققه مثل هذا الاهتمام. فثمة الحديث عن الأعلام العربية الشهيرة في البحث الموسيقى أمثال الكندي وابن سينا وابن الطحان المصري وأحمد بن الطيب السرخسي والأرموي وغيرهم، وثمة ذكر لأسماء أخرى اجتهدت في تحقيق جزء هام من التراث الموسيقي المخطوط. وبين هذا الحديث أو ذاك، ثمة استحضار لعدد من النصوص التراثية الغميسة عمد الباحث إلى تحليل مضامينها وبيان القيمة الموسيقية التي تختزلها. واللافت للانتباه، أنه رغم التفاوت الملحوظ بين قراءات الباحث ابن عبد الجليل، بصدد البحث الموسيقي، في هذا الكتاب؛ فإن تصوره المنهجي ظل واحدا، حيث العناية بالتوثيق والتدقيق والتشبث بخطوات التحقيق. ومن ثمة نجد أنفسنا أمام كم هائل من المعلومات التاريخية وحشد هائل من المصطلحات الموسيقية.

هكذا، بعد أن يحدد الباحث الغاية من تأليف الكتاب ويرسم أفقه المنهجي، يشرع في تناول الموضوع  وبسط أفكاره من خلال قراءات في عدد من الكتب والتصانيف والرسائل والكناشات الموسيقية. وقد خص الباحث أولى هذه القراءات للتعريف بشخصية الكندي وبعصره وشيوخه ومعلميه ومصادره، ثم الإشارة إلى مؤلفاته ورسائله في الموسيقي. ولأن الكندي يحظى بمكانة موسيقية هامة يعرض الباحث لبعض مواقفه ومقارنة آرائه بآراء عصره، مشيدا بمؤلفاته ورسائله التي حرص فيها على الدقة في الإنجاز والعلمية في البحث والتنظير . يقول الباحث: "وعندما أقبل الكندي على التعامل مع الفلسفة الإغريقية وترجمة آثارها الموسيقية إلى اللغة العربية فهو لم يكن مجرد ترجمان ينقل إلى القارئ العربي نظريات الموسيقى اليونانية كما هي، ولكنه كان يتناول تلك النظريات بالتنقيح والتعديل بحسب ما تمليه طبيعة الموسيقى العربية، ويتلاءم مع الذوق السائد بين الناس، ولا يتنافى مع ما يستعمله المغنون من أهل زمانه." (ص19). ولبيان قيمة الكندي في مجال تطوير الموسيقى العربية ودوره في تخليصها من شوائب ما انتهى إليه القدامى من الفلاسفة اليونانيين من نتائج، وذلك باقتراح عدد من المصطلحات الموسيقية. ولعل ما جاء في رسائل الكندي من موضوعات متشعبة هو ما دفع الباحث إلى تصنيفها في جدول توضيحي يسهل على القارئ عملية الفهم والمتابعة، (ص13)، وبالتالي التوقف عند مجموعة من آرائه الموسيقية في الإيقاع وعلاقته بالشعر والغناء وصلتهما بآلة العود ذات الأوتار الأربعة. لينتهي في الأخير إلى إبراز قيمة الرجل الموسيقية.

أما كتابته عن ابن سينا، فيمهد لها بإشارة قوية ترصد منهج المؤلف في التأليف، حيث مطلب الاختصار وتجنب الإكثار. وهو مطلب يرومه ابن سينا خلال حديثه عن الموسيقى، لا لعجز منه؛ وإنما عن دراية ومعرفة. فابن سينا لا يطيل الشرح ويفصل في الواضحات بقدر ما يقدم القراءة الكاشفة تجنبا للإطالة والتكرار. وقد اعتبر الباحث هذا المطلب من السمات الأساس، التي تميز أسلوب ابن سينا عن غيره كالكندي والفارابي. ولعلها ليست السمة الوحيدة في تآليف ابن سينا الموسيقية، إذ سرعان ما يتبين الباحث سمة أخرى، تتمثل في أسلوب المحاورة. يقول: "وعلة تميز ابن سينا عن الكندي والفارابي في هذا الموضوع أن جل، إن لم يكن كل، ما ضمنه الفن الثالث من الرياضيات في علم الموسيقى هو عبارة عن دروس كان يمليها على تلامذته إذا اختلى بهم في مجالسه العلمية كل ليلة، وخاصة في العقد الأخير من عمر." (ص53). ولم يقف أمر تتبع الباحث لمضامين مقالات ابن سينا الموسيقية وطبيعة الموضوعات التي طرقها والأساليب التي انتهجها في التأليف؛ بل جاوزه للكشف عن ملامح الهوية العربية في مباحثه. ولعل تعليقا للباحث عن قراءات ابن سينا لموضوع النبرات ونغم الجملة، مثلا، يجسد، بصورة أو بأخرى، طبيعة الكتابة لديه. يقول: "ومن خلال تحليل هذا التعريف نلاحظ أن ابن سينا جعل النبرات من أحوال النغم، واعتبرها امتدادات صوتية نغمية تتقدم الكلام أو تتوسطه أو تعقبه، وأنها تكتسب بالحدة وبالثقل هيئات ودلالات تعكس أحوال القائل النفسية، وربما تغير المعاني إلى نقيضها." (ص72)

وهكذا، يمضي الباحث ابن عبد الجليل، في كتاباته عن الموسيقى مفصلا حينا ومختصرا حينا. فأنت تراه في كل بحث يقدم معلومة دقيقة عن المؤلف كالمولد والنشأة والاهتمام والمهنة والمؤلفات وسنة الوفاة. ثم ينتقل إلى الكتاب ليرصد ما به من موضوعات وقضايا ذات صلة بالمجال الموسيقي وموقعه ضمن السياق العام . وبين المؤلف والمؤلف يحضر صوت الباحث معقبا ومعلقا وشارحا ومحللا ومحاورا ومناقشا، بحسب ما يقتضيه السياق والمقام. ولعل العودة إلى تفاصيل الكتاب تظهر طبيعة الاشتغال المنهجي لدى الباحث، فثمة حرص شديد على دقة المعلومات وتتبع المصادر والمراجع التاريخية المرتبطة بمجال الموسيقى، وثمة حرص في انتقاء الشواهد الداعمة ووضع المقارنات المناسبة.

يحضر الجانب الموسيقي، في كتابات ابن عبد الجليل، من خلال ما أولاه من عناية خاصة بأجناس الإيقاع ودورها في تجويد الأداء، وبأشكال الألحان وما يترتب عنها من صلات بالعروض الخليلي، وكذا بأنماط الأنغام حيث الطول والقصر، وبأنواع الأزمنة الموسيقية وعلاقتها بالحروف والسماع. إضافة إلى سلسلة من المصطلحات المرتبطة بالآلات الموسيقية ورصد لبعض التدوينات الإيقاعية وارتباطها بأشكال النقرات وقيمتها الزمانية. ناهيك عن تحليل لمقاطع موسيقية في اختزالها للأشعار العربية والأندلسية. وقد عمد الباحث، جلبا للفائدة أن يضمن هذا البعد الموسيقي في جانبه العملي، في بعض الجداول التصنيفية مدعمة ببعض الإشارات التوضيحية، كما هو الأمر في صفحات 42-43-70-71-83-84..88-126-127-135-248..256 وغيرها من الصفحات التي ترصد جوانب البعد الموسيقي بالأساس.

أما المظهر الثاني من مظاهر البعد الموسيقي فيتمثل في تجميع الباحث لكل ما يحيل إلى مكانة العرب والمغاربة والأندلسيين على السواء، ودورهم في تطوير النظرية الموسيقية، أتعلق الأمر بالألحان والأداء أم بالآت وغيرها. دون أن يهمل الباحث العناية بالأشعار والموشحات وما فيها من أنغام وأوزان تنم عن إبداعية شعرائها.

وإمعانا في تمثل التراث الموسيقي العربي، يخصص الباحث ابن عبد الجليل مقالته الأخيرة لعرض أهم الإسهامات المشرقية والمغربية التي انصرفت إلى مجال التحقيق وهي كثيرة ومتنوعة من حيث المادة الفكرية والأدبية والموسيقية. ولتجسيد هذا المنزع العلمي في تقريب ذخائر الموسيقى والأشعار من القارئ العربي والمغربي، شرع في البداية بالحديث عن أعمال الدارسين العرب من خلال إشارات تعريفية بالمؤلف والمؤلف وتوضيحات تمس نوعية هذا العمل أو ذاك، كتابا كان أم رسالة أم كشفا أم إيضاحا أم غير ذلك.  ثم ينتقل إلى عرض مجموع إسهامات المغاربة في نفس المجال ويقسمها إلى ثلاث خانات تضم الأطاريح الجامعية تارة والمؤلفات المؤسساتية تارة، والأعمال الفردية تارة أخرى. ولربط العرض بالتطبيق، يقترح الباحث التعريف بأربعة أعمال مما أحصاه من تحقيقات. وأول هذه الأعمال/ التحقيقات كتاب "الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع" لمحمد بن الدراج السبتي، يليه "كناش الحايك" للحاج إدريس ابن جلون والثالث "مجموع أزجال وتواشيح وأشعار الموسيقى الأندلسية المغربية المعروف بالحايك" الذي أعده وحققه عبد اللطيف محمد بنمنصور. أما الرابع ف"رسالة فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار" لأبي عبد الله محمد بن العربي الدلائي الذي حققه محمد التهامي الحراق.

والواضح، خلال هذا العرض، أو غيره مما خصصه الباحث ابن عبد الجليل لبعض الكتب المحققة، أنه سلك فيها مسلك الناظر المتأمل والعالم المدقق. فهو لم يكتف بسرد الأخبار وعرض مضامين الكتاب ومنهج التحقيق؛ بل تراه، غير ما مرة، يدقق في معلومة أو ينتقد سلوكا أو يعقب مصححا ومعلقا، أو غير ذلك مما يضفي على قراءته وتحليله طابعا علميا يكرس، من خلاله، ذلكم البعد التاريخي من جهة والبعد الموسيقي من جهة ثانية. وهي تعليقات وتعقيبات تنم عن قراءة متأنية فاحصة للمقروء، يمكن العودة إلى صفحات الكتاب لتبين ذلك. ولعلنا نكتفي بتجميع الملاحظات الآتية لتقديم صورة عن منهج الباحث في تعامله مع قضايا وأفكار الكتاب المحقق. ولعل العودة إلى صفحات الكتاب 394/ 396/ 404/ 399/ 410/ 412/ 414/ 417/ 429 وغيرها، تغنينا عن ذكر الشواهد والإحالات.  

خلاصة القول يمكن اعتبار كتاب "من مظاهر تطور النظرية الموسيقية العربية" سفرا تاريخيا وأدبيا في عالم الموسيقى العربية والمغربية الأندلسية، ونظرة جمالية لما في تصانيفها وموازينها من إشراقات وإبداعات على مستوى الأنغام والطبوع والموازين والأشعار وطرائق الإنشاد والأداء. سفر يمكن القارئ العادي من التعرف على موروثه الموسيقي المكتوب من جهة وعلى أنواع الآلات والأداءات، من جهة ثانية. أما القارئ المتخصص فيدعوه لمحاورة المنتوج والنظر في ما يتضمنه من إضاءات ويستدعي مزيدا من الاهتمام وإعادة النظر. كتاب يعلمنا كيف نقرأ تراثنا الموسيقي.

أخيرا، يستشف، من هذه القراءة السريعة، أن كتابات ابن عبد الجليل تميل ميلا واضحا إلى التعريف بالموروث الثقافي الموسيقي من جهة، والتنويه بما أبان عنه المهتمون والمتخصصون في هذا المجال من عناية بالبحث والتنظير ومن مهارات تمس فن القول وطرائق الأداء، من جهة ثانية. إنها كتابات، في تقيدها بخطوات التحقيق العلمية المتعارف عليها، تجسد إلى أي حد انسجمت مع طبيعة الرحلة البحثية لابن عبد الجليل، في صنوف المعرفة الموسيقية، انطلاقا من رصد الرموز والمصطلحات وذكر أشكال الأنعام وأجناس الإيقاع وطرائق الغناء، نظريا وتطبيقيا. ولعله الأمر الذي يجعل العلاقة بين التاريخي والموسيقي تشكل وجهين لكتابة واحدة تقوم على تصور يدعم الهوية المغربية، ويعطي الانطباع برحابة الفكر ونبوغه.   

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق