يتفرع الحديث عن المنظومة التعليمية بالمغرب إلى مناطق بحثٍ متعددة، تتعدّدُ بتعدّدِ المهتمين والمتدخلين في المجال، كما تتباين بتباين الخلفية الفلسفية والمعرفية التي تصدر عن أصحابها. وقد لا يتعلق الأمر، هنا، بالحديث عن التعديل البيداغوجي للمناهج والبرامج فحسب؛ وإنما يتعداه إلى رصد الأنشطة والطرائق الديدكتيكية المصاحبة. فالرهان على تخليق الحياة المدرسية، وتعزيز سلوك المتعلم، ظل هاجسا مستمرا، تبدّى في كثير من النقاشات العلمية والإنجازات الميدانية.
وارتباطا بهذا الأفق الإصلاحيّ، الساعي إلى بلورة رؤية
استراتيجية ناجحة، لقيت المنظومة التعليمية اهتماما منقطع النظير من لدن المسؤولين
والمباشرين لقطاع التربية والتكوين. فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي انخرطت وزارة
التربية الوطنية في جملة إصلاحات وأوراش كبرى رامت خدمة الوطن والصالح العام، من
جهة، كما انحازت إلى تمهير المتعلم وتجويد أدائه المدرسي، من جهة ثانية. ولعل أهم القضايا
الكبرى التي أثيرت، آنذاك، تمثلت في قضايا التعريب والتعميم والمغربة والتوحيد وما
إليها.
غير أن التعثر
الذي صاحب تلك الطموحات، أعادت التفكير، من جديد، في المسألة التربوية، وبات الأمر
ملحا، أكثر من أي وقت مضى، لبذل المزيد من الجهود قصد تخطي الحواجز، التي تقف حجر
عثرة أمام مستقبل البلاد وتقدمها وإزاء تنشيط الحياة المدرسية وتجدّدها.
وبالنظر إلى التطور السريع الذي عرفه المجتمع المغربي
والوتيرة المتنامية، التي ميزت عوالمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذا
الحضارية، لم يعد أمر الإصلاح التربوي مقتصرا على جهة بعينها؛ وإنما امتد ليشمل فئات
المجتمع برمته، حكومة وبرلمانا وجماعات محلية وأحزابا سياسية ومنظمات نقابية
ومهنية وجمعيات وإدارات ترابية وعلماء ومثقفين وفنانين وشركاء فاعلين في القطاع
وغيرهم. فقد انخرط الجميع في صياغة برنامج إصلاحي شامل يستهدف النهوض بالمنظومة
التعليمية، شكلا ومضمونا، واضعين، نصب أعينهم، مصلحة الوطن ومصلحة التلميذ فوق كل
اعتبار. ومن ثمة، كان إنجاز مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين في أكتوبر من
سنة 1999، وما اشتمل عليه من مفاهيم بيداغوجية ورؤى منهجية، أحد الرهانات الكبرى
للإصلاح والتغيير، امتد لعشر مواسم دراسية، دون أن يفرط واضعوه، في المكتسبات
السابقة أو يستهينوا بتلك المرتكزات الثابتة للدولة.
فماذا عن السياسة التربوية الجديدة، التي انتهجتها الجهة
الوصية لتمرير مشروعها الإصلاحي؟ وما هي الوسائل المادية والبشرية، التي احتكمت
إليها أثناء عملية الإنجاز؟ وبالتالي، إلى أي حد يمكن الحديث عن نجاح مستحق لهذا المشروع
التنموي، في ظل الإكراهات والمعيقات المتوالية؟
لقد حرصت الوزارة المعنية، منذ انطلاق العشرية الوطنية
للتربية والتكوين، امتدت من سنة 2000 إلى سنة 2009، باعتبارها أسبقية وطنية بعد
الوحدة الترابية، على تتبع مختلف العمليات والمراحل المتعلقة بتطبيق مقتضيات
الميثاق، ومنها طبعا، تحسين جودة التعليم وتحسين البرامج والمناهج وتجديد المدرسة
وفق الشروط والإمكانيات المتاحة. وهكذا، تفعيلا للميثاق الوطني للتربية والتكوين
وترسيخا لمبدأ الشراكة والفكر الجماعي، كانت ترفع شعارات قوية عند مستهل كل سنة
دراسية، كتحسين الخدمات الداعمة للتمدرس أو الارتقاء بجودة التعليم أو التربية على
المواطنة وحقوق الإنسان أو الاستناد إلى مدخل القيم والكفايات، مثلا.
إنها، شعارات متلاحمة في ما بينها. غير أنها، وإن بدت في
الظاهر منفصلة، تتوجه رأسا، إلى كل متعلم ومتعلمة في علاقته أو علاقتها بالمدرسة والأسرة
والمجتمع، وذلك بهدف جعلهما (ذكرا وأنثى) مواطنين نافعين للبلاد والعباد. وما
شعار: "الأسرة والمدرسة معا من أجل ترسيخ السلوك المدني" في علاقته
بمنظومة القيم، سوى واحدٍ من تلك الشعارات الرامية إلى ترسيخ علاقة واضحة بين
الأفراد والجماعات تنبني على احترام الحقوق والواجبات. ولأن الشعار أعلاه، مرتبط
بالسلوك المدني وصلته بالتربية على القيم؛ فإن البحث في أدوار الأقطاب الثلاثة:
الأسرة والمدرسة والمجتمع، وكذا مساءلة المنهاج التعليمي عن كيفية تبنّيه لهذا
المسعى في وسائطه التعليمية، يبدو أمرا مبرّرا.
فالسلوك لفظ من معانيه السيرة والمذهب والاتجاه. يقال:
فلان حسن السلوك أو سيء السلوك. وما دام السلوك مرتبطا بالإنسان في مواقفه
وأفعاله؛ فإن صفة المدَنِيّ مرتبطة بالتحَضُّر والمدَنِيّة في مقابل سلوك قبيح
مردود أو أفعال همجية. يعرف ابن منظور لفظَ (سلك) بقوله: "السُّلوك: مصدر
سَلَكَ طريقا؛ وسلَكَ المكان يسْلُكُه سَلْكا وسُلوكا وسَلَكَه غيرَه وفيه
وأسْلَكه إياه وفيه وعليه"[1]
أما لفظ (القيم) فمن الاستواء والاستقامة. وحاجة أفراد
المجتمع إلى هذه القيم (النبيلة) مثل حاجتهم إلى الماء والهواء. ولا شك أن مكانها
المحوريّ داخل المنظومة التربوية هو ما جعل التركيز عليها، في السنوات الأخيرة،
كشرط من شروط بناء مدرسة مواطنة ناجحة. لقد كانت العناية بالقيم الإيجابية، في
تجلياتها المختلفة، موجهة أساسا إلى المتعلم، من خلال مجموع الأنشطة الصفية
المقررة أو الأنشطة التربوية الموازية.
ولعل أهم المظاهر التي تعكس مظاهر الوعي المدني، في
ممارسات وسلوك الأفراد والجماعات، تتجلى في احترام الغير والوعي بالحقوق والواجبات
والتشبث بالقيم، كالعدل والتسامح والتضامن ونبذ العنف والخلاف والدعوة إلى العمل
والمشاركة في الحياة العامة، وغير ذلك. هذا دون تأكيد الإشارة إلى أن "التربية
على القيم لا تتخذ معنى إلا من خلال إبراز قيمة الاستقلالية والحرية لدى كل فرد
على حدة، وهو مدخل لتمثل أوليّ للكفاية الديموقراطية."[2].
وتبعا لهذا المعنى، تأتي إمكانية الاقتراب من بعض هذه القيم المتعددة، كما تعرضها
الأطراف المعنية، مجسدة في دور المدرسة والبيت من ناحية، وفي دور المجتمع بأطيافه
المختلفة، من ناحية ثانية.
فكيف إذن، تدمج المقررات الدراسية مفهوم السلوك المدني، كتجلٍّ
لهذه القيم، في برامجها التكوينية؟ وكيف تكرسه نشاطا تربويا، في العملية التعليمية
التعلمية؟ وباستحضار المتعلم في مختلف مراحله التعليمية، ماذا نعني بالقيم وما هي
تجلياتها؟ كيف تحضر في المناهج التربوية وبأي أفق؟ وبالتالي، هل هناك استراتيجية
تعتمد في تدريسها وتنزيلها بالمقررات الدراسية وما مدى تأثيرها على الفئة
المتعلمة؟
يطرح هذا الموضوع نقاشا جادا، حول السلوك المدني والتربية
على القيم، وما يرافق ذلك من إشكالات التنزيل في المدرسة المغربية. فثمة عدد من الأبحاث والدراسات التي سبق أن عرضت
للموضوع[3]،
استنادا إلى معطيات وبيانات مختلفة، بالإضافة إلى عدد من التقارير الرسمية (تقرير
الخمسينية 2005/ تقرير المجلس الأعلى/ تقرير وزارة التربية الوطنية 2013/ الأطر
المرجعية وغيرها). وارتباطا بالموضوع، يستدعي الحديث عن المنهاج التربوي، بالضرورة
اطلاعا على شكل ومحتوى الكتاب المدرسي. فلا أحد ينكر، من المهتمين بالشأن التربوي،
ما لهذا (السند) من أهمية بالغة في الدرس والتحصيل، باعتباره وسيطا بين المعلم
والمتعلم، من جهة، وبوصفه وثيقة تربوية تحمل مشروع مؤسسة رسمية، من جهة ثانية. فالكتاب
المدرسي، في بعده التأليفي العام، يعد الترجمة الفعلية لمحتويات المنهاج وتخزينا
لفلسفته التربوية، من أهداف ومضامين وأنشطة ووسائل وطرائق ومنهجيات، مصادق عليها
من طرف الوزارة.
يقصد بلفظ "الكتاب" اصطلاحا تلك الوثيقة التربوية،
التي تنضاف إلى وثائق المدرس المتوسل بها أثناء ممارسته التعليمية التعلمية، مثل الجذاذة
ودفتريْ النصوص والتنقيط، وغيرها. ولأن لفظ الكتاب موصول بصفة "المدرسي"؛
فلكونه يقترب من مصطلح (المدرسة) بوصفها مؤسسة تضطلع بمهمة التربية إلى جانب البيت
والمجتمع.
والظاهر أنه، بالرغم من التنوع والاختلاف، اللذين قد
نجدهما في تحديد مفهوم الكتاب المدرسي؛ فإن مجمل التعاريف التي ارتبطت به، سرعان
ما تلتقي في كونه يجمع بين المعارف والمهارات والخبرات المتنوعة التي تستهدف سلوك
المتعلم بالدرجة الأولى.
لذلك، كان التعامل مع الكتاب المدرسي، وضمنه الإلمام
بالبرامج والمناهج، ضرورة معرفية ومنهجية لقياس مدى التوافق والانسجام بين الوسائل
الممكنة وبين الأهداف المعلنة. غير أن العناية بالكتاب المدرسي، لا تقف عند
التمجيد والتبعيّة المطلقة لما يقترحه من مضامين ودروس، لهذا المستوى الدراسي أو
ذاك؛ وإنما وجب، على المدرس، فكّ الارتباط معه من حين لآخر، عبر اقتراح مصادر
ومراجع بديلة، سواء أثناء الإعداد أو الإنجاز. وهو ما يعني الانتصار، ضمنيا، للإبداع
باعتباره إحدى القيم الجوهرية مطلوبة. ولعل مؤلفي الكتب المدرسية انتبهوا إلى تلك
الأهمية التي يكتسيها الكتاب المدرسي، في توجيه المتعلم، صوب طرائق منهجية تخاطب
ذهنه وسلوكه في ذات الوقت.
في هذا السياق التأليفي، وحرصا من المؤلفين على ضمان
التواصل مع المتعلم/ التلميذ، تراهم يعرضون في افتتاحيات مقرراتهم بعض التوضيحات
الأساسية، التي تقرب هذا المتعلم من فضاء هذا الكتاب، وتعدّه بما يقتضيه الإعداد
والاستعداد من تأمل وتركيز واتخاذ مواقف إزاء ما يعرض عليه من مواضيع متشعبة
ومهارات متنوعة. كما تراهم ينبهون، بصيغ متفاوتة، مخاطبهم إلى نوعية النصوص
(شعرية، سردية، مقالية، حجاجية وغيرها) التي اقترحوها عليه، بحسب المجالات
المعتمدة من جهة، وتبعا للذائقة الفنية والأدبية المتعارف عليها، من جهة ثانية.
كما حددوا جملة من الأنشطة، التي تسمح بقراءة وإقراء، تلك النصوص المختارة، بعين
تربوية واجتماعية وثقافية أيضا، قصد ضمان تعلم ذاتي حقيقي يسعى إلى تطوير القدرات
والمهارات ويجنح إلى تأهيل الكفايات ويضمن تعديل السلوك واستلهام القيم.
هكذا، حينما نتصفح الكتب المدرسية المبرمجة في الأسلاك
التعليمية الثلاثة: (ابتدائي، ثانوي إعدادي وثانوي تأهيلي) نتلمس التعدد والتنوع
الحاصليْن على مستوى التأليف التربوي، تصورا ومنجزا. ولا شك أن لنظام المجزوءات في
وضع المنهاج، ونخص هنا منهاج اللغة العربية تحديدا، كبير الأثر في تمرير الخطاب
التربوي وتنفيذ مقترحاته. فكل مجزوءة من المجزوءات المقررة
لكل فصل دراسي، تشمل قيمة من إحدى القيم الإنسانية المراد معالجتها وترسيخها،
بوصفها سلوكا تربويا، لدى المتعلم. نذكر، من بين أبرز هذه القيم ما تعلق بالقيم
الإسلامية والوطنية والاجتماعية والحضارية وكذا الاقتصادية والجمالية وغيرها.
تستهدف كل مجزوءة من المجزوءات المبرمجة، غاية تربوية
محددة، من خلال استحضار مدخل الكفايات. وفي هذا السياق التربوي تعرف (الكفاية)
بأنها "نظام من المعارف المفاهيمية الذهنية والمهارية (العملية) التي تنتظم
في خطاطات إجرائية تمكن في إطار فئة من الوضعيات من التعرف على المهمة الإشكالية،
وحلها بنشاط وفعالية."[4]
ولأن مدلول الكفاية يتسع باتساع المجال التربوي والديدكتيكي؛ فإنها تتوزع إلى
كفايات لغوية ومنهجية وثقافية وتواصلية واستراتيجية، تستوجبها كل قيمة من القيم
المقترحة بالكتاب المدرسي، باعتبارها غاية. وبين هذه الغاية وتلك الكفاية، نجد أساليب
متنوعة ومختلفة للدعم والتقويم بأنواعه، تنسجم والفئة التلاميذية المستهدفة.
في هذا الإطار، تحضر النصوص المصاحبة لهذه القيم المستهدفة
(نظرية كانت أم تطبيقية) لتثبيت التعلمات وفقا لطبيعة المتعلم وتبعا لنوعية محيطه
السوسيوثقافي. فكثيرة هي النصوص، التي تسير وفق التوجيهات الرسمية حين تخدم برنامج
السلوك المدني مثلا، وترسخه في شتى مراحل الدراسة والتكوين. فثمة السلوك الذي يمس
الفرد وثمة السلوك الذي يطال الجماعة. وبين الفردي والجماعي شبكة من المحفزات
الساعية نحو إقامة مجتمع مواطن جدير بأبنائه ومتعلميه. ولنا في عناوين العديد من
النصوص الوظيفية المنتقاة، ما يؤكد هذا المنحى البيداغوجي، نحو عناوين: (من قيم
الإسلام/ من أجل مجتمع أفضل/ تواصل الثقافات/ المرأة والتنمية/ سلوك مدني/ حقوق
الطفل/ درس في الوطنية، وغيرها من العناوين المتفرقة بالكتب المدرسية.
نلاحظ، أن ما يقال عن المواد الدراسية المختارة في الكتب
المدرسية، المصادق عليها من قبل وزارة التربية الوطنية، يقال أيضا، عن الصور
والرسوم والأشكال المصاحبة لها. فجلها إن لم نقل كلها، تشير، تلميحا أو تصريحا،
إلى تعزيز السلوك المراد ترسيخه عند المتعلم، سواء أكان صورة فوتوغرافية أم لوحة
تشكيلية أم رسما كاريكاتوريا أم غير ذلك. هذا، دون أن ننسى تلك الأنشطة الموازية
والأسئلة المرافقة لكل نص على حدة، قصد استثمار المعلومة وتثبيت السلوك المدني المستهدف،
داخل وخارج الفصل الدراسي.
بيد أن الحديث عن النصوص القرائية أو الرسوم واللوحات
المرافقة أو طرائق التحليل المقترحة، لا يتم بمعزل عن الحديث عن دور المدرس، بوصفه
فاعلا ومنشطا تربويا. فهو من تسند إليه وظيفة التلقين والتوصيل بطرق بيداغوجية
تقوم على الفهم والإفهام، بتعبير الجاحظ. وكلما كان سلوك المدرس سليما ومثاليا كان
وقعه على سلوك التلميذ المتعلم طيبا وإيجابيا. ومن ثمة، لا ينبغي أن نستهين بدور المدرس
في عملية نقل السلوك المدني وترسيخه بما وسعه من طرق وأدوات وتقنيات خاصة، في صفوف
المتعلمين، من خلال أمثلة وشواهد متباينة يدعمها الحوار والنقد البناء.
ولا حاجة للتذكير أن
تمرير مختلف القيم المبثوثة بالكتاب المدرسي، لا تتم عبر اللغة فقط، بوصفها وسيلة
للمتعلم، عن طريقها يحقق التواصل الإنساني مع غيره، وبها يفهم أوضاع وأحوال محيطه
الخارجي؛ وإنما أيضا عن طريق التربية الفنية والجمالية. كما تتم، استنادا إلى
قدرات المتعلم الخاصة وما اكتسبه من مهارات حس حركية مناسبة. فالتلميذ/ المتعلم،
من وجهة نظر تربوية مغايرة، أصبح مستهدفا أكثر من أي وقت مضى، بالعناية والمصاحبة.
بعبارة أخرى، أضحى متعلم المدرسة الحديثة في ارتباطها بالمستجدات التربوية وتغيرات
الواقع الاجتماعي، مدار العملية التعليمية وليس مجرد متلقٍّ عابر يعيد المحفوظ
ويردده ساعة الامتحان.
لقد كان تصور المدرسة القديمة،
غالبا ما يقوم على الفصل بين المدرسة والواقع. وبالتالي التمييز بين ما يجري
داخلها من أنشطة وبين ما يحدث خارجها من سلوك. ومن هنا اقتصرت المدرسة في دورها
على إعداد المتعلم وشحنه بمعارف الكبار ليس إلا. في حين أن المدرسة الحديثة، سعت
جاهدة لإزالة الحواجز بينهما، انطلاقا من كونهما يستهدفان المتعلم ذاته. في هذا
السياق، تعتبر التربية الحديثة "المدرسة في أساسها مؤسسة اجتماعية أنشأها
المجتمع للإشراف على التنشئة الاجتماعية"[5].
ومن أجل ذلك، تروم (المدرسة) توفير مادتها التربوية، لكل الفئات العمرية وضبط
برامجها التعليمية مع ما هو كائن على مستوى الواقع المعيش والمعاش.
لا ريب أن المجتمع يعتمد
على المدرسة، في إمداده بمواطنين (صالحين) يعملون على تحيين المعارف وتثمين القيم
الإنسانية والجمالية. فالمدرسة، بهذا المعنى، تصبح "وسيلة للتجديد والتغيير،
فهي مصدر من مصادر الإشعاع الفكري والثقافي حيث لا تنحصر أنشطتها ووظائفها اليوم
عبر إنتاج نخب مدرسية لتحمل مسؤوليات وظيفية ومهنية، بل أصبحت فضاء للمبدعين في
كافة المناحي الاجتماعية."[6]
غير أن هذا الدور لا ينحصر في المدرسة وحدها؛ وإنما يتعداه إلى الأسرة والمجتمع.
ولعل مجموعة القسم، تشكل ظاهرة اجتماعية كلية، ينعكس
فيها المجتمع عن طريق نماذج التواصل ونقل المعرفة. فداخل القسم الواحد تنشأ علاقات
ديناميكية بين أقطابه الرئيسة من مدرس وتلاميذ، إذ لا تستقيم العملية التعليمية
دونهما. فداخل كل قسم دراسي يقدم المدرس مجموعة من القيم إلى تلاميذه، ويزودهم بما
يحتاجونه من وسائل الاتصال. وبالنظر إلى التحول الذي عرفه مجال التربية الحديثة؛
فإن الاهتمام اليوم، تركز حول التلميذ. ومن ثمة، أصبح التواصل داخل مجموعة القسم
الواحد، يتميز بالدينامية بين أعضائه: (مدرس/تلميذ) (تلميذ/مدرس) (تلميذ/تلميذ)
وهكذا دواليك.
يعد التعبير المتضمن في لفظتي: "الحياة
المدرسية" قريبا من المعنى الدال على أن للمدرسة حياة تشتغل، تارة وفق ما هو
مسطر فعليا في المناهج والمقررات الدراسية، وتارة باستقدام فنون موازية تستجيب
للذائقة التربوية، كالموسيقى والمسرح والرسم والسينما. ومن هنا، سعى المنهاج
التربوي إلى تجديد اختياراته الفلسفية والجمالية قصد تمكين المتعلم من تقوية ملكته
الإبداعية والارتقاء بذوقه الأدبي والفني. ولا شك أن دور النوادي، داخل هذه
المؤسسة أو تلك، يعد مدخلا لبث روح القيم المواطِنة في تصرفات وسلوك المتعلم. هكذا
حتى يتجسد اللقاء بين السينما والأدب مثلا، يستدعي الأمر تنشيط ذاكرة المتعلم،
بمختلف المستويات الدراسية، ومن تمهير حسّه البصري حيث العين تلتقط الصور وتحللها،
بدل التركيز على الذهن عن طريق الحفظ والتخزين المستمر.
لذلك، لا نعدم أن نجد في بعض المقررات الدراسية، استنادا
إلى مضامين القيم والكفايات التي تحكمت في بناء المنهاج التعليمي، نصوصا تمثيلية
تدعو إلى استحضار البعد الجمالي، مثلما الأمر في إحدى مجزوءات الثانية باكالوريا
مسلك العلوم بعنوان صريح هو: "جمالية الفنون البصرية"، ومنها المعمار
والتشكيل ثم السينما، باعتبارها مدخلا للفهم والقراءة وحافزا لتقويم السلوك.
وبالعودة إلى المنظومة التربوية وما يتضمنه المنهاج
الدراسي من مكونات نجد "درس المؤلفات" مثلا، حيث تُقترح نصوص سردية منها
ما استثمر سينمائيا كرواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ أو السيرة
الذاتية "الأيام" لطه حسين و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق
الحكيم وغيرها. وقد استطاعت هذه الأعمال وما شابهها، أن ترصد جانب الوعي بالصورة
إلى جانب الوعي بالكتابة. فالمدرس، في سياق التدريس بالكفايات، دُفع إلى تطوير
عدته المنهجية وأنشطته الصفية، بغاية توجيه المتعلم إلى قراءة العمل الروائي أيضا
عبر المشاهدة الفعلية، لتنمية حسه البصري والنقدي. فكل مشهد حواري إلا واختزل بعدا
من الأبعاد التواصلية مع المشاهد/ المتعلم؛ بل أحيانا يكون العرض السينمائي أكثر
تأثيرا في النفس من النص المكتوب. إذ كلما كانت الرؤية الفنية للمخرج منسجمة وملائمة
إلا وحصل التأثير المناسب وانغرست القيم المراد تثبيتها في المتلقي. ولنا أن نتأمل
العديد من الأفلام العربية والغربية التي تمحورت حول القيم وراهنت على غرسها في
الناشئة التعليمية. ( (Les choristes/ Le proviseur/ le cercle
des poètes perdus/ La gloire de mon père/ ) أو (مدرسة المشاغبين/ القسم 8). فالسينما وفق هذا التصور، تساعد
المتعلم على تقويم سلوكه وحل بعض مشاكله التي تعصب به من حين لآخر. فالقيم
الإنسانية والجمالية تبرز في العمل السينمائي، من خلال التركيز على الأحداث
والوقائع، وكذا التركيز على العمق الوجداني والاجتماعي للذات البشرية. ففي كثير من
الأعمال السينمائية، المتكئة على نصوص أدبية وتربوية، إشارات عميقة للصراع بين
الخير والشر والحياة والموت والقوة والضعف والقبح والجمال.
إن تنوع الموضوعات السينمائية
التربوية، من شأنها أن تحقق تنوعا في تمثل القيم واستشراف السلوك المدني عند المتعلم
المشاهد. ولعلها إحدى الغايات التي ترومها الأسرة والمدرسة معا. هكذا، يتعرف التلميذ خصائص العمل
الروائي المكتوب، لغة وتعبيرا، مثلما يتعرف جملة من المصطلحات التقنية الخاصة
بالصورة السينمائية وإلى مختلف الوسائل والوسائط الفنية المستعملة، وما كان لها من
تأثير على تمرير القيم في شكل رسائل فنية وجمالية.
بهذا المعنى، لا يمكن أن نتحدث عن القيم الجمالية دون
استحضار البعد البصري ودون العمل على تطويره وتجويده في آن، حتى يتحقق البعدان
التربوي والفني، في ذات الآن. وهو ما يمكن أن نستشفه في عمل بعض الجمعيات، التي
دأبت على تنظيم فعاليات سينمائية، منها مثلا، المهرجان السينمائي الجهوي (كاميرا
التلميذ) الذي تنظمه الجمعية المغربية لتنمية السمعي البصري والمسرح التربوي منذ
سنوات، بتعاون مع الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بالرباط، حيث يقدم التلاميذ
مشاريع أفلام وفق شروط المسابقة وموضوعة الدورة. والواقع أنه في مثل هذه المبادرات
المجتمعية، ما يساهم في نشر ثقافة فنون الصوت والصورة بالوسط المدرسي ويساعد في
بناء شخصية المتعلم واستشراف وعيه البصري، إلى جانب تنمية حسه التعبيري من خلال
قراءة النصوص واستثمار أفكارها وآراء كتابها ومؤلفيها. لذلك لا حاجة للتذكير أن
تمرير مختلف القيم المبثوثة بالكتاب المدرسي، لا تتم عبر اللغة فقط، بوصفها أداة
ووسيلة؛ وإنما عن طريق التربية الجمالية، أيضا.
ومع ذلك، تبقى العملية
التعليمية التعلمية، عصيّة على التحليل، إذ تعترضها على الدوام، مجموعة من
الصعوبات والمعيقات، منها ما ارتبط بشخصية المتعلم والمعلم على السواء، ومنها ما
اتصل بالمناهج والكفايات، مادة ومنهجا. ومنها أيضا، ما ارتبط بطبيعة العمل الجماعي
التواصلي لعملية التدريس، نفسها. وما الحديث عن السلوك المدني والتربية على القيم،
بتجلياتها المختلفة، سوى مظهر من المظاهر التي تعكس وضع المنظومة التربوية وحاجتها
الملحة إلى التحيين والتجديد المستمرين.
إن تنوع طرائق المدرس في تقديم الأنشطة التعليمية بحسب
الفصل الدراسي ومستوى مدارك التلاميذ يعد مدخلا رئيسا لا غنى عنه لضمان نجاح مرتقب
أكيد. كما أن استحضار أنشطة المؤسسة الثقافية والرياضية والفنية، كتجليات موازية
لأنشطة القسم ضرورة وتحصيل حاصل. لكن هل تستطيع المدرسة وحدها مقاومة الجهل وترسيخ
القيم؟ وإلى أي حد تستطيع الثبات والصمود، في ظل الإكراهات المتجددة؟
إذا كان اعتبار المدرسة مجتمعا مصغرا تلتقي فيه أنماط من
الفئات الاجتماعية وتلقن داخله ألوان من المعارف والقيم، ودورها أساسي؛ فإن دور
الأسرة، هي الأخرى، لا يقل أهمية عن دورها. فهي بمثابة حقل تجريبي للسلوك المدني،
وبدون تعاونها وتظافر جهودها مع المدرسة لا يمكن للمنظومة التعليمية، بحال من
الأحوال، برامج ومناهج وغيرهما، أن تسد الخصاص وتملأ الفراغ أو تواصل المشوار
وحيدة فريدة. فكلاهما يكمل الآخر وبهما معا تدعم القِيم المشتركة.
ومعناه، أن أمر التعليم، كما ألمحنا سلفا، لم يعد مقتصرا
على المدرسة أو الوزارة وحدها فحسب؛ بل إنه أصبح شأن الجميع. شأن الأسرة وشأن
المجتمع المدني قاطبة، من جمعيات ووسائل إعلام وغيرهما، ما دامت الغاية واحدة تسعى
إلى وضع المتعلم، تلميذ اليوم والغد، في وضعيات تنمي لديه الإحساس بالذات وتحصينها
مما يعيبها، وتمكِّنُه من تمييز السلوك المدني السليم واتخاذ الموقف المناسب في التوقيت
المناسب. ويمكن اختصار ذلك، بعض الإشارات الدالة، من قبيل: احترام الرأي والرأي
الآخر، وكذا المساهمة في الإصلاح والبناء، عبر المشاركة والمبادرة.
إنهما بعبارة موجزة، وجهان لعملة تربوية واحدة، تتغيا
بناء مجتمع سليم متحلٍّ بالقيم الإنسانية والكونية النبيلة، تتعايش أفراده وتتواصل
في ظل الاحترام والحوار المتبادل.
مراجع
- التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي. الرباط. 2009
- ابن منظور لسان
العرب. (مادة: سلك) دار الكتب العلمية بيروت لبنان. المجلد10. 1992.
- الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
- عبد اللطيف
الخمسي. رهانات الفلسفة وبيداغوجيا القيم الإنسانية. دار التوحيدي. الرباط 2013.
- عمر الرويضي. تجديد الخطاب التربوي بالمغرب بين هاجس الإصلاح وقلق الفشل.
كلمات للطباعة والنشر والتوزيع. 2021
- محمد الدريج. الكفايات في التعليم. سلسلة المعرفة
للجميع. منشورات رمسيس. الرباط 2000.
- مؤلف جماعي. إشكالات تنزيل القيم في المدرسة المغربية.
كلمات للنشر والطباعة والتوزيع. تمارة. 2018
*/ هذه الدراسة مدرجة بكتابنا: (قضايا في التربية والديدكتيك) دار التوحيدي. 2021
[1]- ابن منظور لسان العرب. (مادة: سلك) دار الكتب العلمية بيروت لبنان. المجلد10. 1992. ص442
[2] - عبد اللطيف الخمسي.
رهانات الفلسفة وبيداغوجيا القيم الإنسانية. دار التوحيدي. الرباط 2013. ص9
[3] - انظر، على سبيل المثال، المقالات
المتضمنة بالكتاب الجماعي "إشكالات تنزيل القيم في المدرسة المغربية".
منشورات كلمات للنشر والطباعة. المغرب 2018
[4] - محمد الدريج.
الكفايات في التعليم. سلسلة المعرفة للجميع. منشورات رمسيس. الرباط 2000. ص57
[5] - أحمد زكي صالح. علم
النفس التربوي. مكتبة النهضة المصرية. 1972. ص24
[6] - محمد أوداود. القيم
في منهاج اللغة العربية. ضمن كتاب جماعي (إشكالات تنزيل القيم في المدرسة
المغربية) ص147
مقال شاهد على العصر، لا يبخس الناس أشياءهم ويتتبع ويقوم ما يفتل في حبل عرض تربوي تعليمي لائق بالمدرسة الحديثة خصوصا ما تعلق بمنظومة القيم.
ردحذفجزيل الشكر والتقدير
حذفماشاءالله عليك اخي زادك الله تالقا وتوفيقا
ردحذف