"هـل من » المُمكن « أن نكتب تاريخ أدب، أي أن نكتب ما سيكون أدبيا وتاريخا معا؟ لنعترف بأن معظم تواريخ الأدب إما تواريخ اجتماعية أو تواريخ للأفكار كما تتوضح في الأدب أو أنها انطباعات وأحكام على أعمال معينة رتبت ترتيبا حسب التسلسل الزمني." (نظرية الأدب. رينيه ويليك. أوستين وارين)
يشكل تاريخ الأدب نوعا
من الكتابة التي تنتسب إلى مجال الأدب كما تنتسب، في الوقت ذاته، إلى مجال التاريخ.
وانطلاقا من هذا التداخل الأجناسي، نصادف تعريفات متعددة ومتنوعة، منها ما يقضي
باعتبار تاريخ الأدب علما لا يتجزأ من علم التاريخ، ومنها ما يمضي في اتجاه اعتباره
صورة من صور الأدب. ويمكن التمثيل بنموذجين أحدهما يطبق مناهج التاريخ لوصف الأدب
في ارتباطه بالعصر أو بالأديب أو بالأحداث وغيرها، والثاني يستحضر ذات المناهج؛
لكن من باب استعادة الأدب في حركته وديناميته ومحاولة تقديمه كما لو كُنا نحياه في
زمانه.
غير أن تاريخ الأدب سرعان
ما يطرح إشكالات أخرى، من قبيل: هل نؤرخ للنصوص أم للأشخاص؟ ما علاقة تاريخ الأدب باستعادة
الماضي وإحياء التراث؟ وبالتالي هل يستطيع المؤرخ الأدبي أن يصل إلى كل النصوص الموزعة
بين المصادر والوثائق والموسوعات؟ لا شك أن محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها،
رهين بمدى فهم الدور المنوط بالمؤرخ الأدبي وبمدى إدراكه الفروق الأجناسية بين ما
هو أدبي وغير أدبي.
ولأن الموضوع متصل بتاريخ الأدب، فجدير بالذكر أن
هذا النوع من الكتابة لم يظهر عند العرب، بشكله الحديث، إلا في بداية القرن
الماضي، حيث يعود الفضل إلى ما كتبه المستشرقون الإنجليز والألمان. وتبعا لذلك، خلف
العرب، مشرقا ومغربا، كتبا رائدة في المجال، منها التراجم والمعاجم والسير وغيرها،
تنم عن خبرة وذائقة وموسوعية[1]. ينضاف إلى هذه الكتابات، ما كان لتحقيق النصوص
القديمة ونشرها بين الناس من بالغ الأهمية، ومن "أسباب النهضة الأدبية في
مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي، إذ بهذا النشر وضعت كنوز وذخائر من التراث
العربي بين أيدي قراء اللغة العربية، فاطلع الناس على هذه الذخائر المطمورة،
والكنوز المخبوءة، بعد أن جلا الطبع محاسنها، وأبرز النشر مفاتنها."[2]
إن عملية إحياء التراث ونفض الغبار عن المنسيّ
والمهمل فيه، هي إحدى المهمات التي خص بها مؤرخ الأدب نفسه. فتاريخ الأمة رهين
بالاطلاع على تراثها وحضارتها والإنصات إلى ثقافة شعبها. لذلك، وكيْ لا تكون
كتابات المؤرخ الأدبي مجرد تأريخ وتوثيق لما مضى أو انقضى فقط؛ فإنه مدعو أيضا إلى
البحث عن "الأدب" و"أدبية الأدب". ولنا في أدبنا المغربي
أعلام ممن برزوا في هذا المجال، لعل من بينهم الراحل الدكتور محمد بنشريفة. فماذا
عن كتاباته؟ وكيف نقرأها أو نقاربها في ضوء تأريخ الأدب؟
يعد الباحث والمؤرخ الأديب محمد بن شريفة أحد الأسماء
البارزة في سماء الفكر والعلم والأدب، ليس فقط في الساحة الثقافية بالمغرب؛ وإنما
في الساحة العربية كذلك. ولعل اهتمامه اللافت بالتراث العربي الإسلامي، المغربي
منه والأندلسي، يعود إلى شغفه المتواصل بالبحث والنبش في غميس الوثائق ونادر المخطوطات
التي تعنى بتاريخ الأدب بالغرب الإسلامي وضبط أعلامه وتوثيق نصوصه. ومن ثمة يندر
ألا يستعين باحث في هذا المجال، ببعض ما كَتبه في الموضوع، إن لم نقل كله، باعتباره
ذخيرة ومرجعا في تخصصه.
واعتبارا
لمكانة محمد بن شريفة في الجامعة المغربية، واعترافا بجهوده البحثية المتواصلة، احتفت
به مجموعة من المؤسسات الجامعية، منذ سنوات، وأفردت له اهتماما كبيرا يليق بشخصيته
العلمية والرمزية. فقد خُصصت أيام لتكريمه وعُقدت ندوات وأيام دراسية حول شخصه
وأعماله.[3] فما راكمه الراحل من إنتاجات علمية تصب في مجالات
التراجم والسير والأدب والتحقيق وما إليها من دراسات دقيقة، قمين بأن تفرد لها
حلقات كثيرة للقراءة والمواكبة.
إن الرجوع إلى، مجموع أو بعض، العناوين المتنوعة لمحمد بن شريفة، في الأدبين المغربي
والأندلسي، يؤكد المكانة العلمية المرموقة التي تميّز بها الرجل من جهة، والقيمة
النوعية التي احتوتها أعماله من جهة ثانية، جعلت منه علما من أعلام الفكر والثقافة
في تاريخ أدب الغرب الإسلامي. نذكر من بين هذه العناوين:
§ أبو المطرف
أحمد بن عميرة المخزومي. 1966
§ أبو يحيى
الزجالي القرطبي. 1971
§ ابن عبيديس
النفزي من أعلام التصوف بالأندلس في القرن السابع. 1986
§ أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة. 1986
§ ملعبة الكفيف الزرهوني. 1987
§ تراجم مغربية. 1996
§ أديب الأندلس أبو بحر
التجيبي. 1999
§ ابن رشد الحفيد- سيرة وثائقية. 1999
تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب. 2006..
وإذا كان التاريخ جزءا من هوية الأدب والحضارة، ولولاه ما كان بالإمكان التعرف
على محطاته المختلفة، منها الضاربة في القدم والموغلة في النسيان؛ فإن عناية محمد
بن شريفة، باعتباره باحثا في ظواهر وقضايا الأدب، قد انصبت على استعادة هذا
التاريخ بما هو ذاكرة لا تخلو من أهمية وجاذبية. ومن ثمة كان الرجوع إلى تراث أدب
الغرب الإسلامي والإفادة من مخزونه الثقافي المتنوع أمرا مبررا.
لم تكن مهمة محمد بن شريفة أول عهده بالبحث سهلة، على ما يبدو. فالوصول إلى
المعلومة، أو المعلومات بصيغة الجمع، مقارنة مع زمن اليوم، كان صعبا وشاقا يتطلب
في كثير من الأحيان التنقل من بلد إلى بلد ومن منطقة إلى أخرى. كما أن الولوج إلى
المكتبات والخزائن، هنا وهناك، من خلال البحث في دهاليزها ورفوفها، شكل ضرورة لا
مندوحة عنها لبلوغ الغاية المنشودة. وهو ما كان يعبر عنه في كل مناسبة أو حوار.
فالبحث العلمي رهين بمدى الجهد الذي يقوم به الباحث/المؤرخ وبمقدار ما تيسر له من
فهم وإدراك للعمل المبحوث فيه. فلا
بد للمؤرخ أن تتوافر فيه "صفات كثيرة أهمها: أن يكون نقادا، ثاقب النظر، وأن
يتفحص شؤون الحياة باستلطاف، لا سيما المرحلة التي يقوم بدراستها. وأن يتميز بسعة
الخيال، ليتوصل على استعادة الماضي وإحيائه باستخدام ما لديم من مراجع ومصادر.
وأبرز الصفات المفروضة فيه هي أن يكون نزيها في أحكامه فلا يسيطر عليه الهوى، ولا
يشوه التشيع أحكامه، ولا يتأثر بمواقفه الأخلاقية أو السياسية أو الدينية فيلون
بها رؤيته للأحداث."[4]
بهذا المعنى، لا تدخل أعمال محمد بن شريفة في
باب نفض الغبار عن الذاكرة الأندلسية المغربية فحسب؛ وإنما استعادة تاريخها الأدبي
ومجدها الشعري بالإصغاء تارة وبالمحاورة تارة أخرى. وقد شكلت المصادر التاريخية
المختلفة المورد الرئيس والمناسب للبحث والكشف عن خصوصية المنتج المبحوث عنه وفيه.
وهو ما يفسر الحضور البارز لعدد من الأبحاث والدراسات والتنبيهات. أما انكباب الباحث
على السير والتراجم من الأعلام فمبعثه محاولة التعريف بهم لانعدام أو ضعف معرفتهم
بين الناس. يقول محمد بن شريفة: "وأشهد أني أشعر بسعادة كلما أنجزت عملا من
هذا القبيل، هكذا شعرت عندما حررت ترجمة أبي المطرف ابن عميرة المخزومي الشقري منذ
ثلاثين سنة خلت، ثم فيما تلا ذلك من تعريفي بالبسْطي والحُكيّم والثغري والكفيف
الزرهوني والكانِمي وغيرهم؛ وهكذا أشعر الآن بعد أن انتهيت من التعريف بأبي عمْرو
ابن عبد ربه الحفيد."[5]
وقد حق للباحث أن يستشعر هذه السعادة، اعتبارا للجهود التي بذلها في سبيل تقديم
سير دقيقة ومفصلة عن بعض الأعلام الأدبية والتاريخية وبسط كثير من المعلومات
المرتبطة بالمنجز الشعري أو النثري لهؤلاء. وهو ما يسمح بإلقاء نظرة عن جزء من
تاريخ الأدب العربي في هذه الحيز الجغرافي، وما أولاه المؤلف من عناية بإحياء
التراث ونشره خدمة اللغة العربية.
لقد عُرف محمد بن شريفة منذ أزيد من ثلاثين
سنة مهتما بأدب الغرب الإسلامي، جمعا وتحقيقا وبحثا وتعليقا وتدريسا وتأطيرا. وهو
اهتمام يندرج في سياق العناية بتأريخ الأدب عبر النبش في المصادر والأصول، منها المخطوطات
والمأثورات والمضان والمصنفات والموسوعات وغيرها. فمنذ عمله الأدبي الأول عن
"أبي المُطرِّف أحمد بن عميرة المخزومي"[6]
يعلن محمد بن شريفة عن كونه باحثا متمرسا يقتفي أثر المؤرخ الأديب ويتخذ لنفسه
مسارات دقيقة تراعي أهم الشروط التي تستدعيها عملية التأليف والتحقيق. يقول في
مقدمة الكتاب: "ومع هذه الجهود الطيبة التي عززت الأعمال القيمة التي قام بها
المشتغلون بالدراسات الأندلسية في بلادنا فإننا نظن أن ميدان الأدب الأندلسي
الفسيح ما يزال مفتقرا إلى العناية، ذلك أن كثيرا من جوانبه لم تدرس بعد كما أن
قسما كبيرا من المكتبة الأندلسية لا يزال مخطوطا وما يزال كثير من أعلام الأدب
الأندلسي في مختلف العصور ينتظرون من ينفض عنهم غبار الزمن ويجلو عنهم صدأ القِدم
كي يَظهروا في صور ناصعة مشرقة."[7]
انطلاقا من القول السابق، نستشف أن محمد بن
شريفة يعدّ نشر النصوص والعمل على دراستها، بما يتطلبه الأمر من دقة وتوثيق، مدخلا
رئيسا لدراسة تاريخ الأدب وخدمة لتراث الأمة بشكل عام. لذلك تجد محمد بن شريفة، يبحث،
خلال مساره العلمي، عن المخطوطات المغمورة وينقب في المصادر التي لم تصلها بعدُ،
يد الباحث، بهدف نفض الغبار عنها وإخراجها للقراء في حلة شبيهة من الأصل أو قريبة
منه. ولأن عملية التحقيق بأنواعها المختلفة، تستدعي ضرورة جهدا مكثفا وصبرا مضاعفا؛
فإن الباحث المؤرخ لم يحد عن هذا الاختيار المنهجي الصارم؛ بل تجده يمضي فيه قدما
بما توافر لديه من مؤهلات علمية ومعرفة بأنواع الخطوط وأصناف النصوص. فالتحقيق ليس
إخراج نص ونشره كيفما اتفق؛ وإنما هو جهد جهيد، يجمع بين الفنّية والعلمية، بدءً
بجمع النسخ ومقابلتها، مرورا بتحقيق العنوان واسم المؤلف ونسبة النص/الكتاب،
وانتهاءً بتحقيق المتن وإخراجه وصنع فهارسه المختلفة.[8]
انسجاما مع هذا الطرح العلمي، الحريص على الدقة
والعلمية، يلتقي العديد من الدارسين في نقطة مفادها أن تنوع اهتمام محمد بن شريفة،
منذ خبر البحث في التراث الأندلسي المغربي، بين تحقيق وتنبيه ودراسة وتحليل، أعطى
الدليل على ما له من أفضال وخدمات جلّى في ميدان الكتابة والتأليف بعضها يمضي في اتجاه تحيين الفكر وما
جد بشأنه من معلومات ووثائق من جهة، وبعضها يروم ترسيخ النزعة الوطنية من خلال
الذود عن الهوية المغربية العربية من جهة ثانية.
بهذا المعنى لم يكن محمد بن شريفة يكتفي
بإثارة الموضوع والتفصيل فيه كتابة أو بوصف التحقيق المتاح، حيث الاقتصار على
اعتماد النسخة الوحيدة من المخطوط المتوفر أو عقد مقابلة بين النسخ المتعددة
للمخطوط الواحد، إن وجدت؛ ولكنه يروم دائما الإضافة وعرض الجديد بخصوص ما يقترحه
من تحقيقات وتراجم ودراسات، بما يضفي على العمل طابعي الزيادة والإفادة. وهذه
الإضافات المتنوعة التي يرومها من حين لآخر، لا تتحقق إلا من خلال اطلاعه الواسع
وتجنبه الإعادة والتكرار لما تم التوصل إليه من قبل.
يقول في هذا الصدد: "وقد دعاني تقيدي
بهذا الشرط أن أمكث فترة غير قصيرة أستقرئ الأعمال التي أنجزت في الدراسات
الأندلسية سواء في ذلك المنشورة وغيرها، وأفتش بين المخطوطات عن الموضوعات
الجديدة، وهي كثيرة، وقد تنقلت بين موضوعات مختلفة، قبل أن يستقر اختياري على ابن
عميرة موضوعا لهذا العمل المتواضع."[9]
إن الرجوع إلى ما كتب في مجال الدراسة وتحقيق
التراث، قبل الإقدام على أي مشروع جديد في المجال ذاته، يعد مرحلة رئيسة لا مندوحة
للباحث عنها. فالبحث في تاريخ الأدب لا ينبغي أن يتغافل عما كتب في السابق. فالبحث
العلمي ليس معزولا؛ وإنما هو سلسلة حلقات تشد ببعضها. ولا بحث يأتي من فراغ. ولعل
هذا المنزع هو ما حذا بالباحث محمد بن شريفة أن يعيد النظر في ما كتب قبله، حتى
يتبين الجهد والإضافة.
وبالحديث عن التحقيق والنسخ المرتبطة بالنص
المراد تحقيقه، فيبدو أنه بالرغم من بعض الصعوبات التي قد تعترض الباحث في عملية
تحقيق المخطوط ذي النسخة الواحدة والوحيدة؛ فإنه لا يأل جهدا في القراءة والفحص
والتدقيق من أجل إخراج نسخة سليمة تستجيب للمعايير العلمية والأدبية. يقول محمد بن
شريفة في تقديمه لتحقيق ملعبة الكفيف الزرهوني: "يعرف المنشغلون بتحقيق
النصوص محاذير إخراج النص الذي لا توجد منه إلا نسخة واحدة، ولربما أوصوا بالعدول
عن إخراجه، وتزداد هذه المحاذير إذا كانت النسخة الوحيدة سقيمة النقل والضبط، سيئة
الكتابة والخط، كما هي الحال في النسخة التي بين أيدينا من هذه الملعبة."[10]
وبناء على هذا التوصيف لم يقف الباحث مكتوف الأيدي حين لم يجد أمامه سوى نسخة
فريدة؛ بل اعتمد على مقروءاته وخبرته بالخطوط من أجل استكمال عملية التحقيق عبر
استقصاء الأخبار والمعلومات من الكتب المناسبة.
هكذا يكون السفر بين ثنايا المصادر والتنقل
بين الخزائن والمكتبات ديدن الباحث لتقديم أجود ما لديه في مجال التحقيق والدراسة.
ومن ذلك الإعلان عن المنهج باعتباره ضرورة لتبرير العناية بتاريخ الأدب في الغرب
الإسلامي. فحضور التاريخ والأدب والسياسة والدين وغيرها مفاتيح أساسية للاشتغال.
ولعل الانشغال بأبي المطرف، في هذه المرحلة من تاريخ الأندلس والمغرب، لم يقتصر
على استعراض حياته التاريخية الذاتية والسياسية والمهنية والثقافية فحسب؛ بقدر ما
انشغل بإنتاجه الأدبي أساسا، شعرا ونثرا، قياسا بمن جايلوه أو عاصروه من الشعراء
والأدباء.
إن العمل السابق بما تضمنه من معلومات، كثيرة
وإشارات وفيرة، تستند إلى مجموعة من المصادر التي تم تحيينها وكشف النقاب عنها، من
خلال بسطها بين يدي الباحثين في ما بعد، يؤكد القيمة الرمزية والأدبية لأبي المطرف
أحمد بن عميرة المخزومي. يقول محمد بن شريفة في خاتمة الكتاب: "حاولت في هذه
الدراسة أن أعرف بأبي المطرف بن عميرة المخزومي وهو من الشخصيات الكبيرة في تاريخ
الغرب الإسلامي التي لم يعن بها الباحثون بعد، ونرى أنها جديرة بالدرس لأن في
درسها وسيلة إلى تصوير العصر الذي ينتمي إليه وبدونها تبقى صورة العصر ناقصة غير
كاملة."[11]
فالكتاب يعد وثيقة أدبية وتاريخية في آن،
بالنظر لما احتواه من أبواب متفرقة عنيت بشكل تجزيئي بشخصية ابن عميرة وآثاره؛
لكنها توحدت جميعها في التعريف بهذه الشخصية ونفض غبار الزمن عنها لما لاحظ الباحث
إهمالها من قبل المشتغلين بالدراسات الأندلسية واقتصارهم فقط على طائفة مشهورة من
أعلام هذا الأدب. لذلك كانت الضرورة تستوجب الانتصار إلى الأدب الأندلسي المغربي
عبر الكشف عن مخزونه والإسهام في جمعه وتحقيقه ونشره ودراسته.
يقول محمد بن شريفة في هذا المعنى:
"ونحن إن كنا نؤمن بأن التراث الأندلسي تراث عربي مشترك فإننا نؤمن كذلك بأن
العبء الأكبر من إحياء هذا التراث وبعثه يجب أن ينهض به المغاربة لأسباب عديدة
منها وفرة مصادره المخطوطة لديهم وسهولة الاستفادة منها عليهم أكثر من غيرهم،
ومنها أنه تراث محسوب على المغرب وراجع إليه فمعظم هذا التراث ولا سيما في عصوره
الأخيرة ازدهر بفضل تشجيع المغاربة ورعايتهم وحمايتهم، كما أن كثيرا من أعلامه هم
من أصول مغربية، ومن هذه الأسباب قدرة أهل المغرب أكثر من غيرهم على تذوق هذا
الأدب وفهم ما يشتمل عليه أحيانا من ألفاظ وأساليب تميز بها عن الآداب
المشرقية."[12]
هكذا يمضي الباحث في التراث العربي سابرا
أغوار المصادر والمتون، منصتا وممعنا، معدلا ومحللا وفق رؤية منهجية تقود إلى نص
قابل للنشر والتداول.
تستوقفنا، ونحن نبحث في طبيعة التأليف عند
محمد بن شريفة، من خلال ما جاء في تحقيقاته المختلفة، بعض الملامح الدقيقة التي
تمس رؤيته المنهجية في التعامل مع الموضوع والنصوص. فأنت تراه حريصا على الضبط
والتوثيق والتأمل في المتن المطروق؛ بل حريصا على تقصيه جل الأخبار والمعلومات من
مختلف المصادر والمراجع الممكنة، بغية ربط التواصل بين القارئ والمقروء. وهو في
هذا العمل أو ذاك حريص على الأمانة العلمية وما تقتضيه من موضوعية، حيث لا مكان للمغالاة
ولا موضع لأحكام القيمة. نذكر من ذلك تحقيقه السفر الثامن من كتاب الذيل والتكملة
حيث أبان عن شخصية خبيرة بالموضوع واسعة الاطلاع، يهتدي بأصول ومبادئ علم التحقيق.
كما أن كثرة قراءاته ووفرة محفوظاته وجودة
اختياراته جعلت منه باحثا رصينا دقيق الملاحظة متأنيا في أحكامه وآرائه. تقول نجاة
المريني بخصوص إحدى دراسات محمد بن شريفة على سبيل الاستنتاج: "فهو يتعقب
تعليقات شيوخ المؤلف وأصحابه وتلامذته، ويرصد التعليقات والتذييلات والانتقادات،
وبعد جولات في كتاباته وتحقيقات في انتقاداته يبدي آراءه الدقيقة وملاحظاته
المفيدة، وتنبيهاته اليقظة، ولعل في انتصاره لابن عبد الملك في انتقاداته ما يؤكد
دقة ملاحظته ورهافة حسه بعد إعمال فكر وإبداء نظر."[13]
وهو ما يعني ارتباط الباحث بالبعد المعرفي من حيث التمكن من المادة المراد تحقيقها
إضافة إلى توخي الدقة في التوثيق، باعتباره "مرحلة أساسية من مراحل التحقيق،
ثم التمكن من علوم الآلة، حيث العودة إلى المعاجم والتراجم والاستعانة بالنحو
والبلاغة والعروض، تشكل ضرورة لا مناص للباحث من حسن إدارتها إذا ما أراد الاقتراب
من الصورة الحقيقية أو التقريبي، التي تركها العمل الأصل."[14]
الظاهر أن همّ الباحث محمد بن شريفة لم يكن هو
التحقيق في حد ذاته؛ وإنما ما يضيفه من جديد، على مستوى المعلومات والأخبار
والنصوص، وما ينشره من تنبيهات ضرورية عن بعض القضايا ذات الصلة بكتاب أو مجموع
مثلا. فكل تراجمه وسيره مدعمة بالشواهد والحجج التي تضفي على العمل مصداقيته
المطلوبة وتدرجه ضمن دائرة التأريخ للأدب. نذكر من ذلك ما خصه بسيرة ابن مغاور
الشاطبي وما جاء في مقدمة كتابه عن السيرة الوثائقية لابن رشد الحفيد حيث ذكر أن
ما جعله يقدم على هذا العمل هو تمكين الدارسين من وثائق ومعلومات جديدة عثر عليها
أثناء قراءاته المختلفة. وتكمن خصوصيات هذه السيرة في كونها "تشتمل على نصوص
مخطوطة جديدة وعناصر مجهولة في سيرة ابن رشد، كما أنها تقدم لأول مرة شهادات في
الدفاع عن ابن رشد لبعض معاصريه، ومن شأنها أن جعلت أستاذنا يعيد النظر في
التصورات حول موقف أهل عصره منه."[15]
ولأن الصلة
بين الأندلس والمغرب لم تنقطع؛ فإن محمد بن شريفة يحافظ على هذه الرابطة الثقافية
والحضارية بينهما من خلال انكبابه على ما يزخران به من تراث أدبي متنوع. ومن ثمة
وجه عنايته، هذه المرة، إلى الأدبين الأندلسي والمغربي لبيان ما بينهما وبين الأدب
المشرقي من مظاهر التأثير والتأثر. وهي عناية أملتها ما كان يحمله المشارقة من
مواقف سلبية عن المغاربة والأندلسيين عموما، واتهامهم بالتبعية والتقليد استنادا
إلى القولة الشهيرة للصاحب ابن عباد لما وصله كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه:
"هذه بضاعتنا ردت إلينا". فما كان من محمد بن شريفة وسواه من الأدباء
إلا أن عبروا عن حسهم الوطني بإظهار ما في أدب الغرب الإسلامي من نصوص شعرية لا
تقل أهمية وإبداعية عن نصوص المشارقة. وقد كانت العودة إلى النصوص مدخلا، من بين
مداخل كثيرة، لرفع التهمة وإعلان المنافسة.
تبعا لذلك،
كان الحديث عن المساجلات والمعارضات وغيرها من الظواهر الأدبية والشعرية. ولعل كتابه
" أبو
تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة"[16] يجلي هذا التواصل الثقافي، حيث يستعرض محمد بن شريفة عددا من النصوص
الشعرية، التي تعالقت مع بعض نصوص أبي تمام أو أبي الطيب. وهي نصوص لشعراء من
المغرب والأندلس.
في هذا السياق
التوثيقي، الأدبي والشعري، سيثبت محمد بن شريفة نماذج متعددة تظهر تعلق المغاربة
وتأثرهم بأشعار وشخصية أبي تمام، من خلال فن المعارضة. يقول: "ونظم شاعر
مغربي من أهل القرن العاشر الهجري، وهو محمد بن ابراهيم الفاسي قصيدة في معارضة
سينية أبي تمام أيضا "[17].
كما أشار إلى معارضة الجراوي لرائيته، وعلل هذا التأثر بكون مدائح أبي تمام كانت
"مثالا مفضلا لدى شعراء المديح في عصر الموحدين"[18].
أما حضور أبي
الطيب المتنبي في أشعار المغاربة فقوي أيضا، حيث تأثر به شعراء العهد المرابطي
وعارضوا قصائده كابن أبي الخصال، وغيره؛ بل إن العهد السعدي سيشهد حركة أدبية
واسعة، إذ "بلغت العناية بديوان المتنبي في المغرب ذروتها في عهد المنصور
الذهبي"[19].
ومن ثمة، نجد
المؤلف يسوق الظاهرة عبر مصطلحات مثل: الأخذ والمحاكاة والاحتذاء ثم المعارضة، وما
سواها من المصطلحات التي تفيد معنى التعلق والتأثر بالمفهوم الواسع للكلمتين.
ولاشك أن أي عمل بحثي، من هذا القبيل، يتطلب
جمع المادة البيبليوغرافية، التي تخدم الموضوع أولا وتدعم المنهج ثانيا. وبما أن
الاشتغال حول تأريخ الأدب بالغرب الإسلامي، فقد اقتضى الأمر مراجعة العديد من
المصادر والمراجع، القديمة منها والحديثة، ناهيك عن حصر الدواوين أو النصوص
الشعرية المتفرقة ووضعها رهن المقارنة والتحليل. ومن تم تقديمها عبر وسيط اللغة
الواصفة والناقدة أيضا تفعيلا لبعد التواصل والحوار الأدبي للتراث بين الأجيال.
لقد تنوعت
مصادر أعمال محمد بن شريفة بين مخطوط ومطبوع، واشتملت على أدب المشارقة
والأندلسيين معا، بحكم الروابط الثقافية والحضارية، التي جمعت بينهما لفترات زمنية. ومن ثمة يشكل هاذان الرافدان مرجعية مركزية
لكل دارس أو مهتم بتاريخ الأدب العربي في الغرب الإسلامي.
المراجع
·
أحمد زنيبر. المعارضة الشعرية عتبات التناص
في القصيدة المغربية. دار أبي رقراق الرباط 2008
·
أحمد زنيبر. مديح الصدى دراسات في أدب الغرب
الإسلامي. منشورات دار التنوخي. الرباط 2011
·
جبور عبد النور. المعجم الأدبي. دار العلم
للملايين ط2 بيروت. 1984
·
جميلة رزقي. حول منهجية الأستاذ محمد بن شريفة في تحقيق التراث
الأندلسي المخطوط. ملتقى الدراسات المغربية الأندلسية بكلية آداب تطوان 2016
·
عبد السلام محمد هارون. تحقيق النصوص ونشرها.
مكتبة الخانجي بالقاهرة. ط7 مصر. 1998
·
محمد بن شريفة. ابن عبد ربه الحفيد. فصول من
سيرة منسية. دار الغرب الإسلامي.1992
·
محمد بن شريفة. أبو المطرف حياته وآثاره. منشورات المركز الجامعي
للبحث العلمي. الرباط 1966
·
محمد بن شريفة. أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة. دار الغرب
الإسلامي. بيروت 1986
·
محمد بن شريفة. ديوان ابن فركون. مطبوعات
أكاديمية المملكة المغربية 1975
·
مؤلف جماعي. تحقيق التراث المغربي الأندلسي.
حصيلة وآفاق. منشورات كلية الآداب وجدة 1997
·
نجاة المريني. أعلام في الذاكرة والوجدان. ج1 مطبعة الأمنية الرباط
2007
+/ نشر المقال بمجلة المناهل. وزارة الثقافة. العدد 102. السنة 2021. صص 351-361
[1]يمكن العودة إلى ما كتبه الجرجاني والجاحظ وابن خلكان والمبرد والثعالبي وجرجي زيدان والمقري وابن بسام والمختار السوسي وابن تاويت وعبد الله كنون وغيرهم كثير، وكلها كتابات ذات نفس طويل.
[2] محمد جرير. مع محققي التراث العربي
الإسلامي. ضمن مؤلف جماعي "ألق التراث" منشورات كلية الآداب عين الشق
الدار البيضاء. 2006 ص115
[3] من ذلك الندوة العلمية التي نظمتها
شعبة اللغة العربية مؤخرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق بالدار
البيضاء. يومي 27/28 نونبر 2019
[4] جبور عبد النور. المعجم الأدبي. دار
العلم للملايين. بيروت ط2. 1984. ص56
[5] محمد بن شريفة. ابن عبد ربه الحفيد. فصول من
سيرة منسية. دار الغرب الإسلامي. بيروت 1992
[6] العمل عبارة عن رسالة جامعية تقدم
بها الباحث لنيل دبلوم الدراسات العليا تحت إشراف الدكتور أمجد الطرابلسي نوقشت
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1964 وأجيزت بميزة "جد حسن"
[7] محمد بن شريفة. أبو المطرف حياته
وآثاره. منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي. الرباط 1966. ص5
[8] انظر تفاصيل ذلك في كتاب "تحقيق
النصوص ونشرها" لعبد السلام هارون. مكتبة الخانجي بالقاهرة 1998. ط7. ص42 وما
بعدها
[9] محمد بن شريفة. أبو المطرف. ص6
[10] محمد بن شريفة. ملعبة الكفيف
الزرهوني. الطبعة الملكية. 1987. ص7
[11] محمد بن شريفة. أبو المطرف. ص307
[12] محمد بن شريفة. أبو المطرف. ص5-6
[13] نجاة المريني. أعلام في الذاكرة
والوجدان. ج1 مطبعة الأمنية الرباط 2007. ص92
[14] أحمد زنيبر. مديح الصدى دراسات في
أدب الغرب الإسلامي. دار التنوخي. الرباط 2011. ص 103
[15] جميلة رزقي. حول منهجية الأستاذ محمد
بن شريفة في تحقيق التراث الأندلسي المخطوط. ملتقى الدراسات المغربية الأندلسية
بكلية آداب تطوان 2016 ص17
[16] محمد
بنشريفة. أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة. دار الغرب الإسلامي. بيروت 1986
[17] محمد
بنشريفة. أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة. ص 65
[18] محمد
بنشريفة. أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة. ص 62
[19] محمد بنشريفة. أبو تمام وأبو الطيب في أدب
المغاربة. ص 159
إرسال تعليق