تـجـرِبـةٌ من زمَــنِ الــوَبـاء
لم يكن متوقعا أن ينتقل خبر الوباء سريعا، مُذِ ظهر بإحدى المدن الأسيوية. فقد ترددّت أخباره بشكل تدريجي، في مختلف الوسائل الإعلامية. كان وصف الوباء بالجرائد والإذاعات واستعراض عدد الإصابات بالقنوات التلفزية، كما لو كان مجرّدَ عرضٍ سينمائي لا تبرح مظاهره وآثاره الجانبية فضاءَ تلك المدينة المصابة (ووهان).
في هذا السياق العالمي الموبوء، كنتُ قد عزمت القيام بترويض نفسي وحمْلِها على
التخفيف من استعمال الهاتف المحمول والمكوث طويلا، أمام شاشة الحاسوب، أحرّرُ ما
تيسر من كتابات وأتنقل بين المواقع الإلكترونية وما تلفظه من قضايا وموضوعات. غير
أن الوباء سرعان ما انتشر كالنار في الهشيم، وحلّ ضيفا ثقيلا على ساكنة القارات
الخمس، دونما تمييز. ثم صار الوباء يتنقل عبر دول المعمور كيف يشاء، بين الأفراد
والجماعات. ثم كان ما كان، وحل الداء بسلا المدينة/ المكان.
إثر هذا الانتشار، تقرّر الحجر الصحي، في شهر مارس من سنة الوباء 2020 فأعادني،
من حيث لا أشتهي، إلى سابق عهدي. فقد انتصبت أمامي، صفحتا الفضاء الافتراضي الأزرق
والأخضر، ولم يكن، في ظل الانزواء البيتي، إلا أن أواصل الحياة عبر المشاركة
بتدوينات ترصد جوانب من حالاتي النفسية والإبداعية. كما لم أكن في حِلّ، بحكم
الصداقات الافتراضية والحقيقية معا، من متابعة صفحات غيري، مشدودا إلى ما يموج في
عوالمها الدفينة من أخبار وأسرار..
امتثلتُ، مثل غيري، للقرار الحكوميّ في حرصه النبيل، على سلامة المواطنين
وأمنهم الصحي. وتفعيلا لذلك، تجندت للوباء سائر الفعاليات الحكومية والمجتمعية، وكان
طبَعيا أن توجد في الصفوف الأمامية جنود مواطنة من سلطةٍ وصحةٍ وتعليمٍ واقتصادٍ
وصحافةٍ وغيرها. ثم كان الرهان على احتواء الداء، من خلال اتخاذ عدد من التدابير
الاحترازية، كالمكوث بالبيت والحرص على التباعد الجسدي ووضع الكِمامة والتعقيم المستمر.
لكن كيف للمرء أن يلتزم بهذه الشروط القاسية، وأن يقول لا مِساس، وهو الذي تعود أن
يكون حرا طليقا مثل طير السنونو؟ بل أين يجد ضالته، بعيدا عن أماكنه الأثيرة المفضلة
ورفاقه المقربين؟ فلا مساجد ولا مقاهي ولا ملاعب ولا حدائق ولا شواطئ ولا منتزهات
ولا حفلات ولا تجمعات. بدا المنع شبيها بمن يحتضر، ولا سبيل لاستعادة الحياة سوى رفع
الداء بالدواء.
هكذا، وجدتُ نفسي منخرطا أتابع هذا المُستجد، وما أحدثه من رعب وفزع في
نفسية الأهالي والسكان. أصبحت الـ(كرونا) موضوع الساعة؛ بل حديث السنة بامتياز.
حصدت، في زمن قياسي، أرواح العشرات فالمئات ثم الآلاف من البشر. إثرها أعدت ترتيب
عاداتي وبعض متطلباتي. في البدء، واجهت حرماني من جولاتي المعتادة بالمدينة أو الشاطئ
وحرماني من لقى الأصحاب وصلة الأرحام، بلزوم البيت وعدم الخروج إلا لضرورة
اقتصادية أو علاجية. ثم شرعت في تدبير زمن الحصار.
لعلها كانت، هذه المرة، فرصة سانحة للذات كي تختلي إلى ذاتها، وتسترد
أنفاسها الضائعة في البحث عن إبْرةٍ في زحمة الحياة. بتُّ أكثر انجذابا للتفاصيل
الصغيرة والانتباه إلى دقائق الأشياء. أقرأ وأسمع تارة، أتأمل وألاحظ تارات أخَر.
لم يعد يشغلني عن الذات سوى انبعاثها من جديد. أخبار الجائحة كانت تصلني، كل يوم،
عبر الإذاعة والتلفاز. أرقام تتصاعد هنا وهناك وخوف شديد من الآتي بدا بالداخل يتمدد.
كثُرت الأقاويل عن الوباء واتسعت دائرة المحللين والمعلقين والمعقبين، في كل مكان.
بيد أنه، بالرغم مما أثير من تكذيب وتبخيس، في عدد من المواقع التواصلية،
بشأن هذا الوباء الذي اختلط معه الجِدُّ بالهزْل والعلمُ بالخُرافة؛ فقد ظل متمسكا
بتيجانه المتعددة، دافعا إياها للتناسل والتكاثر، كلما حلّت بجسد واهن آيلٍ للسقوط
أو غمرت رئة ضعيفة قابلة للعدوى والدمار. هكذا، كلما اشتد الخطب ازداد الحرص
والحصار.
خلال الأشهر الأولى من زمن الاغتراب بالبيت السعيد، عقدت صلتي بمكتبة البيت،
وأعدت قراءة عدد من الكتب والروايات والمجلات والدواوين المتوفرة، وأرفقتها بما
تيسر تجميعه بحاسوبي من أعمال رقمية. إضافة إلى قراءة ما كنت قد اقتنيته في
مناسبات أدبية سابقة. كانت فترة قراءة بامتياز. أما الوظيفة التربوية فاستمرت عن
بعد، بالرغم من مشاكلها العالقة. ولأن لزوم البيت صار عندي رديفا لاستمرار الحياة،
فقد كان للمطبخ حضوره الماتع، من خلال المساهمة في الإعداد والتوضيب والاقتراح.
أما الفرجة المسرحية والسينمائية، فكانت مع سلسلة من الأفلام العربية والأجنبية
والبرامج الثقافية، حتى ما عاد الشعور بالوحدة أو الانطواء، وما عاد الانهمام بثقل
الوباء.
فجأة، تجري الرياحُ بما لا تشتهي سفن الإبحار. يأتيني هاتف من قائد المنطقة
يسألني عن حالتي الصحية وعن مكان إقامتي، ثم يحولني إلى مسؤولة بمندوبية الصحة بالمدينة،
تستفسر، هي الأخرى، عن طبيعة اللقاء الذي جمعني بطبيب أخصائي في الأذن، كنت قد زرته،
برخصة استثنائية، أثناء الحجر الصحي. أما سبب هذا الانشغال فاكتشاف حالة مرضية
بعيادته، ومن المحتمل أن تكون العدوى قد فعلت فعلها، بحكم وجودي مع المرضى ممن
كانوا وقتذاك، داخل غرفة الانتظار. شعرت، ساعتها، بغير قليل من التردد والفزع،
وصرت أضرب أخماسا في أسداس، كما يقال.
في اليوم نفسه، من تلقّي المكالمتين معا، حضر، إلى مقر سكناي، ممثلان عن
البعثة الصحية المكلفة بالتدخل السريع. كان لحضورهما بالبدلة الواقية أثر بالغ
ضاعف من حجم الخوف والارتباك. سألاني في ثبات، ثم أخذا تصريحاتي ودونا بعض
الملاحظات، على إثرها أعلنا ضرورة دخولي في فترة الحجر الصحي الانفرادي، لأكثر من
عشرين يوما، حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ابتلعت الصدمة وأظهرت قوة
سرعان ما تلاشت بعد انزوائي بالغرفة وحيدا وبعيدا عن مخالطة أي كان.
قلَّ حماسي وركبتني الهواجسُ من كل جانب. ثم بدأ العدُّ. وصار انتظار
النتيجة أملا منشودا. والتزاما بالوعد، لازمني صوت ملائكي، من وزارة الصحة، يتصل
بي كلّ يوم، ليعرف حرارتي ويطمئن على حالتي النفسية وهل من أعراض جانبية. وكم ألفت
ذاك الصوت الحاني وانضبطت لموعد اتصاله صباح مساء. واصلت القراءة واحتميت بالهاتف
والحاسوب لعلني أخرج من دائرة الترقب والارتقاب. ثم وجدتني منشغلا بالأرقام وعدد
الحالات المسجلة كل يوم. هالني توالي النداءات بالتزام الحجر وترك المسافة بين
الناس وإلغاء جميع اللقاءات والتجمعات، التي تحولت في ما بَعد إلى تواصلاتٍ عن بُعد.
لم أشتكِ يوما من مكوثي بالبيت، فبإمكاني ألا أغادره لأكثر من أسبوع. فقد
اعتدت التجول داخله كما لو كان قارة صغيرة. أركب الخيال رفقة الكتاب وأجنح للكتابة
كلما هاجني البوح. وها إني الآن مُجبَر، غير مُخيّرٍ، على البقاء حيث أنا. أطل من
شرفتي على الحيّ وقد باغته الموت البطيء، حتى السطح الذي ألِفَتْه قدَمايَ بات
غريبا؛ غير أن رب السماء كان قريبا.
صرت أحلم كل يوم بالموتى، وهم
يطبطبون على كتفي. يقتربون مني، دونما اعتبار للمسافة التي أوصت بها وزارة الصحة.
كنت مطمئنا إلى جوارهم، ولم أبال شرط المسافة تلك. فكيف لي ألا أمسّ أمّي وأخي أو
أبتعد عنهما مسافة، وقد تبدّيا معا، في صورتهما اللطيفة وابتسامتهما الشفيفة؟ وحين
أستفيق من غفوتي الطويلة، تعودني الأطياف القزحية وأشعر بالدوران. أبدو مثل صخر حطّهُ
السيل من عل. فهل كان مجردَ كابوسٍ أم حقيقةً توارت لفترةٍ، عن الأنظار؟
لم تمض فترة الحجر إلا وقد أربكت حساباتي وعدّلت معتقداتي. فما عاد اللعب
مع الوباء والاستخفاف بوجوده. وما عاد الإنصات لغير الذات، وهي ترى بعين الحقيقة، وقع
الأموات يتساقطون تباعا، كأوراق الخريف، وسيارات الإسعاف تجوب الطرقات، ليلا ونهارا،
دونما كلل أو ملل. وما عاد التشكيك في جدوى الكتابة، بما هي تجربةٌ في الحياة
وبالحياة. وما كان للصوت الملائكي أن ينقطع عن مرافقتي اليومية حتى تأكد له
بالملموس خلوّيَ من الإصابة واجتيازي مرحلة الحجر بنجاح. ولعلها كانت بشرى
وانشراحا فاقت فرحة طفل في يوم عيد.
هكذا، حين أستعيد جمر اللحظات التي مرّت بي ومررت بها، أنزف حزنا على وطني،
على وردة ذبلت شوقا إلى ماء، على قلبٍ اكتوى من بِعاد. لقد عشت ضنك الحجر
والانفراد، وإن بدا ضرورة، وذقت طعم الفقد بلا وداع. لكني جربت الارتفاع إلى ملكوت
الله، وحده يغنيك عن كل الفواكه الرديئة، مهما أظهرت من جاذبية وإغواء.
لو يسعف العمر، حكيت، بلوعة الغريب، عن زمن ضاعت منه المواقيتُ وعن كِمامةٍ
أضاعتْ وجه الطريق. خبّرني المدى قال: أراني عصيّ السماعِ ولا حظّ لي، غيرُ هذا
الفرح المستعارِ وذكرى المكانِ، فأيُّ معنى يُرضيك أيتها الريح كي لا أسرف في
الرحيل؟..
إرسال تعليق