في ديوان "أبتسم للغابة"
قبل الحديث عن ديوانه الجديد "أبتسم للغابة" محور هذا اللقاء، أحب
أن أتحدث عن صاحبه عبد الجواد الخنيفي، باعتباره صديقا تعرفت إليه ذات مشاركة بالمهرجان الوطني 21
للشعر المغربي الحديث بشفشاون، الذي دأبت على تنظيمه إحدى الجمعيات المدَنيّة بالمدينة
(جمعية أصدقاء المعتمد). كان ذلك سنة 2006. وبحكم طبيعة المهرجان، الذي يستقبل
عددا من الوجوه الإبداعية المغربية، كانت الفرصة سانحة للتعرف إلى بعضها وربط جسور
التواصل معها.
قد كان عبد الجواد الخنيفي آنذاك، أحد هذه الوجوه التي تركت لدي
انطباعا جميلا عن الإنسان والمكان. فقبل انطلاق فعاليات المهرجان الشعري، بندوته
وأمسيته، جمعتنا دردشة طويلة برحاب أحد فنادق المدينة تبادلنا خلالها الآراء حول
الذات والمجتمع وقضايا الكتابة. بدا الخنيفي مرحا خفيف الظل ومحاورا هادئا. تعلوه،
من حين لآخر، حمرة خجل، تنم عن دماثة خلق وعفة أصيلة.
حين استمعت إلى الخنيفي أول مرة، أكبرت فيه تواضعه الأنيق، إذ لم يكن نزقا ولا
متطفلا. كان يُرهف السمع لغيره ويجيد الإصغاء. لا يرْمِ بالكلام حتى يقلبه ويشذب
بعضه بعضا. ولعله، في الشعر، ابتدأ من حيث ينبغي البدء شاعرا متأنيا لا يستبق
الأضواء. يترك المعنى حتى يختمر في الدواخل ثم يحولَه إلى كلمات مشدودة إلى بعضها.
كان المعنى عميقا في ديوانه "الخيط الأخير" وما كان أخيرا. لأن أغلب
النصوص التي صدح بها في أولى تجاربه الشعرية كانت حافلة بالمجازات والصور. هادئةً
في الظاهر؛ لكنها هادرةٌ في العمق طافحة بالمرامي البعيدة، تروم التأمل في الكون
والإنسان، عبر لغة تتوسل بالواقعي والمتخيل.
ولم يقف أمر التواصل الشعري بيننا عند هذا الحد، حيث القراءة والمتابعة؛
وإنما سيمتد ويتجدد، في القرب كما في البعد. أذكر، بعد لقائنا الأول بشفشاون، دعوتَه
لي للمساهمة في ملف كان يعده لصالح جريدة العلم، عن دلالة المكان في حياة المبدع. وهو
الأمر الذي حفزني للكتابة عن إحدى الخزانات الشهيرة بمدينة سلا وهي "الخزانة
العلمية الصبيحية" وتجسيد علاقتي الدراسية والثقافية بها. وقد نشرت المادة
بجريدة العلم في دجنبر2007. وهنا سأتعرف على عبد الجواد الخنيفي إعلاميا بعدما
خبرته شاعرا.
وعودةً إلى الشعر، لست بغافل عما تركه لديّ من ارتسام ديوانه الثاني
"زهرة الغريب" (2014)، حين قرأته أول مرة، حيث الأفق الشعري الجديد، من
خلال المراهنة على التكثيف ومقاربة الموضوعات المختلفة، ذات الصلة بالذات والطبيعة
والطفولة. فقد وجدت الخنيفي في هذا الديوان، يفتح عبر نصوصه المتعددة، كوات متباعدة
يطل من خلالها على العالم في تداعياته وتحولاته الكثيرة؛ بل وفي انسيابيته
الإنسانية أيضا. نقرأ في مقطع له عن الراحل عبد الجبار السحيمي:
"يصحو إلى قهوته
يدا غامضة
وسماء واسعة
وزهرة تمشي
إلى بلادها
نحو برق القيامة." (زهرة الغريب ص56).
ولأن أفق الشعر لدى عبد الجواد الخنيفي أفق منفتح على تجارب الرواد
المغاربة، فقد خص تجربة الشاعر عبد الكريم الطبال، بدراسة علمية تبحث في البنيات
العميقة التي يتوسل بها الشاعر في تشكيل قصيدته، وينبش في ما يجعل هذه القصيدة
لحظة إبداعية تنضح بالسحر والجمال. وخلال المدة التي تحول فيها الخنيفي باحثا لم
يكن يبخل على نفسه بالقراءة والاستشارة كلما أرقه موقف نقدي أو استشكل عليه نص
شعري. أذكر، كم مرة تواصلنا خلالها، عبر الهاتف، وناقشنا خلالها عددا من القضايا
الشعرية المؤرقة، ونمّمنا كثيرا في الشعراء وفي انزياحاتهم الأثيرة. كنت سعيدا كلما
طلّ عبر الهاتف، أو رنّ على وجه التحديد، وهو يشملني بثقته الكبيرة ويشاركني في
تواضع جمّ، بعض همومه البحثية. ولعمري، لهي إحدى الصفات التي تميز الطالب الجاد
والمجدّ.
وبصدور ديوانه الأخير "أبتسم للغابة" سنة 2018 يكون الخنيفي قد
جدد عهده بالشعر. وربما أول ما يلفت الانتباه في هذا العمل الجديد عنوانه المثير. فهو
عنوان مغر بدلالاته المتعددة. فثمة فعل الابتسام باعتباره علامة ارتياح ورضى. وثمة
الغابة بوصفها مكانا مفتوحا على الاحتمالات والمفارقات. فإذا استحضرنا الخضرة
والخصوبة والانشراح وما في معناها؛ فإننا يمكن أن نستحضر في المقابل مواصفات
الشساعة والامتداد، إن لم نقل متاهات التيه والظلمة والمجهول.
غير أن هناك أسئلة أخرى تتبدى، ونحن نطالع هذا العنوان: لماذا يبتسم
الشاعر؟ وما معنى أن يبتسم لغير الإنسان؟ هل هناك علاقة ما تجمع بينهما؟ وأي تأثير
يحدثه ابتسام الشاعر في الغابة؟ ثم، ألا يجوز أن تكون الغابة عينُها هي من يبتسم
لا الشاعر؟ أسئلة وأخرى، تقترح نفسها لمحاورة المتن علّها تظفر برؤية الشاعر؟
إن فعل الابتسام دليل على الحركية والتفاعل. سفر في المعنى أكثر منه سفرا
في المبنى. معنى الوجود ومعنى الحياة. وإذ نلقي بنظرة سريعة على عناوين المجموعة
نلحظ ميل الخنيفي للعناوين المفردة النكرة (قطار، حطابون، ليل، غزل، طفلة، حطام،
حلم، رقص، عصافير، ثرثرة، بحرن أمل، أوراق، سماء) مقارنة بالعناوين المركبة
المعرفة سواء بأل أو بالإضافة. (العابر، بيت المهاجر، معاطف الأصدقاء، الأيدي،
العشاق، الظل، ضوء قريب). واستنادا إلى هذه العناوين، يعزف الخنيفي معزوفاته
الشعرية على أوتار الذات في علاقتها بالآخر وبالأشياء من حولها. إنها ذات مسكونة بالقلق
والسؤال.
"القامات تصغر وتكبر
تعلو وتهبط
اسألوا المطرَ
النائمَ فيكمْ،
اسألوا الهواءَ
الذي في المرايا؟" (ص90).
وصلة بالموضوعات تسعى الذات جاهدة للاحتفاء بهويتها الضاربة في عمق المعيش
اليومي والعابر. فالظل والليل والبياض والحلم والأوراق والذكريات جميعها تعيد
ترتيب الوجود وتؤسس لحياة رمزية تأبى الإهمال والنسيان. يقول:
"رتبنا الوجوه والأصوات
وخيط الكلام
وما تكتبه الريح أيضا بأسنان الفصول
ورمينا الأكتاف والساحة
بالحجر والظل
وصرنا خلف النجمة
بسهم واحد
جثثا
تتنفس الملح والطعنة
رتبنا.. ورتبنا.. ورتبنا..
ولم نسأل الخريف
صديقنا الوفي
الذي علمنا يوما
كيف نسقط
دون أجنحة!" (ص105-106).
هكذا كلما أوغلنا في نصوص المجموعة وجدناها تمتح من الذات والطبيعة في
بعدها الإيجابي. فالغابة، عند الخنيفي، بيتُ من لا بيت له. لعلها أقرب من غابِ
الشاعر الرومانسي جبران خليل جبران، حيث ينتشر الفرح ويعلو الغناء:
أعْـطِـني النايَ وغـنّ |
|
وانْـس داءً ودواء |
لذلك ظل الشاعر يبحث عن علة وجوده ويرسم معالم انوجاده في السر كما في
العلن. من ذلك قوله مستحضرا بعض عناصر الطبيعة:
"الطائر الوحيد
الذي يطلق
أغنيته في البراري
والبحرُ المهشم الأنفاس
والوردة المذعورة
على غصن الجبل
هم سمائي العائمة
ويدي الغامضة
وظليَ الآخر." (ص89)
ليس غريبا إذن، أن تكون المعاني المبثوثة في ثنايا النصوص تنتقل بالذات الشاعرة
بين صمت وصوت؛ بل من جهة لأخرى ومن عالم لآخر. ولعل القطار الذي يركبه الخنيفي ويطل
من شرفته لم يكن سوى جسر رمزي لتنقله الدائم، عبر اللغة والمجاز، طلبا للطمأنينة
والاستقرار. يقول:
"من شرفة القطار
رأيت التراب إكليلا
أدرك صفير المحطة
وأن السفر أجنحة
بين الحلم والنسيان..
من شرفة القطار
أترك للحياة قامتي
وأنصرف." (ص11).
وبين هذا المعنى أو ذاك، تحضر الذاكرة ويحضر المكان. قرينان لتوثيق اللحظة
واستدعاء الكلام. ومن ذلك إشارته الدالة:
"لا تصدقوا يدي
حين يعبر الغجر بنومهم
دروب الوردة
وعلى أكتافهم
حمام الأندلس
ودم المصارع
وندم الكمنجات البعيدة." (ص25).
وهو ما يكشف من جديد صلة الشاعر بواقعه وانجذابه إلى المكان، في بعديه
الجغرافي والتاريخي معا.
هكذا، عرفت الخنيفي مسافرا بين الشعر والنقد والكتابة. بين شباب الشعر
وشباب الروح. يمارس طقوسه وينوع تجاربه بما توافر لديه من قدرة على انتقاء اللفظ
وركوب المعنى، دون التفريط في جماليات التخييل والإيقاع.
"من الصعب
أن تنظر بعين واحدة
فعين القلب أنقى
وعين الروح أبقى
وكلاهما بحر يضيق
وموج غريق." (ص51)
فهنيئا للشاعر عبد الجواد الخنيفي بهذا السفر الشعري، وهذه المرافقة
الوجودية الوجدانية. في رحاب غابة، مثلما فعل الشاعر وأهنئه على هذه المصاحبة
الوجودية والوجدانية.
------
*/ قدمت هذه الورقة خلال حفل تقديم وتوقيع الشاعر ديوان "أبتسم للغابة" يوم 12 يناير
2019 نظمته جمعية دار لوان بالرباط.
إرسال تعليق