U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

استراتيجية القراءة

 في كتاب "صياد اللآلئ" لعلي القاسمي


تشكل إصدارات الدكتور علي القاسمي، منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي إلى الآن، ذخيرة علمية وأدبية في مشهدنا الثقافي العربي. ولعل غزارة إنتاجه وتنوعه بين مجالات الفكر والتاريخ والبحث والترجمة والتربية والتعليم والنقد والإبداع وحقوق الإنسان، تشهد له بهذا الحضور والتألق الدائمين. وتبعا لهذه الأهمية، فقد عقدت لقاءات وأنجزت دراسات متعددة حول شخصه وأعماله، تشيد بسحر كتاباته وعمق إضافاته.

لا شك أن حرص القاسمي، وهو العراقي منبتا، على قراءة ما ينشر من أعمال مغربية والكتابة عنها فور صدورها، يعود إلى عنايته وتقديره للمنجز المغربي عامة. فمنذ إقامته بالمغرب سنة 1978 أبدى إعجابه بالأدباء والمبدعين المغاربة، فصادقهم وقرأ لهم وكتب عنهم في مناسبات مختلفة. لقد كان همه، وراء ذلك، إشراك القارئ العربي في متعة ما يقرأ من نصوص وأبحاث تقترب من ذائقته الأدبية، من جهة، وفي تمكينه من أعمال ضمت إفادات قمينة بالاطلاع والمتابعة، من جهة ثانية. نذكر من جملة الأعمال التي جسدت هذا المنزع الأدبي لدى القاسمي كتابه: "من روائع الأدب المغربي."[1] الصادر عن منشورات الزمن سنة 2002، تلاه كتاب، يصب في ذات المنحى، تحت عنوان: "صياد اللآلئ قراءات في الفكر والإبداع المغربي المعاصر"[2]، وكلاهما تجميع لعينة من المقالات والدراسات التي أنجزت في فترات متعاقبة.

يهمنا في هذا السياق، أن نعرض لكتابه الأخير: "صياد اللآلئ" باعتباره استمرارا لذات النهج الذي تبناه الكاتب قرائيا. وسنحاول من خلاله الوقوف عند أهم الاختيارات التي وجهت مساره القرائي، وحددت طبيعة المقاربة المنهجية لديه.

يدبج علي القاسمي كتابه "صياد اللآلئ في الفكر والإبداع المغربيّ المعاصر" بإهداء يقول فيه: "صديقي الفنان الكبير خالد النجار، جئت إلى المغرب عندما كنت عميدا لأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وأمينا عاما لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، لترأس مؤتمر الاتحاد في الرباط. فوقعت في حب المغرب وأقمت فيه. أحببت أهل المغرب، فرسمت وجوههم الطيبة؛ وعشقت طبيعة البلاد الخلابة، فخلدتها في عشرات اللوحات الرائعة. أهدي هذا الكتاب إلى روحك الطاهرة." وهو إهداء دالّ، ينم عن مشاعر النبل والوفاء حيال صديقه الراحل خالد النجار. بعدها يقدم القاسمي لكتابه، في أربع صفحات، يعرض فيها لأهم الدوافع التي كانت وراء هذا الإصدار تمثلت بالأساس في حبه الشديد لبلد المغرب منذ أن حط الرحال به وربط علاقات متينة مع كثير من كتابه ومفكريه ونهل من معرفتهم وخبراتهم. يقول: "وفي المغرب بدأت رحلتي مع المعرفة، فأقبلت على العبّ من مناهلها الثرة، أروّي ظمأي المتفاقم إلى التعلم." (ص11)

ولأن هاجس المحبة التي أولاها الكاتب للأدباء والمبدعين المغاربة، هي ما حركه بالأساس للكتابة عنهم وعن كتبهم ومؤلفاتهم. فقد اعتبر كتابه "صياد اللآلئ" رشفات من ينابيع مؤلفاتهم شدت انتباهه بالنظر لما شملته من إفادات ومعلومات جديرة بالقراءة والتأمل. يقول: "مثَلي ومَثلُ عطايا الفكر المغربي المعاصر، في هذا الكتاب، كمثل صياد لؤلؤ عثر على في فج عميق من فجاج البحر على عرصة مليئة باللآلئ النادرة، خطفت بصره، وبهرت عقلهن فحمل منها ما استطاع، وظلت عينه على الكثير الثمين الذي بقي وراءه." (ص11) ومن ثم تصح قراءة العنوان (صياد اللآلئ) باعتباره دليلا على ما يوليه الكاتب من عناية بالمقروء المغربي في تعدديته، من جهة، وبوصفه رحلة ثقافية في الزمان والمكان تجد لها وقعا في الذاكرة والوجدان، من جهة ثانية.

يقع كتاب "صياد اللآلئ" في ثلاث مائة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، ويندرج ضمن القراءات النقدية المنفتحة، التي تقترب من العمل الأدبي بغية التعريف به وبصاحبه، وكذا بغية إشراك قارئه/ المتلقي في بعض المواقف والآراء التي تصدر عن الكاتب/الناقد إزاء المقروء. لهذا الغرض حرص القاسمي في كتابه أن يجعل من قراءاته وتأملاته وتساؤلاته حافزا لولوج عوالم الكتاب المعني بالقراءة. وأهم هذه الحوافز ما تجسد في معيار "المحبّة" باعتبارها قيمة إنسانية ورمزية، في آن. يقول في هذا المعنى عن الكاتب أحمد شحلان: "وهو لا يكتب إلا إذا تأججت نار المحبة بين الضلوع، وازدحمت الأفكار في الذهن. عندها، ينتضي قلمه ليسطر الدرر وينظم اللآلئ، إيمانا منه برسالة الأديب، ودور العالم في المجتمع، وقيمة الكلمة التي تنغرس في أرض موات، فتثمر فكرا، ونماء، ومجدا." (ص75) وربما هي ذات القيمة الإنسانية الرمزية، التي انطلق منها القاسمي وجسدها في معظم أعماله وأبحاثه. فلا شيء يرغمه على القراءة أو الكتابة، لولا وجود المحبة في عمق اختياراته ولولا استحضار الجانب التوثيقي والتأريخي في ممارسته.

يوزع القاسمي كتابه "صياد اللآلئ" إلى ثلاثة أجزاء متفاوتة، كل جزء يضم مقالات وتقديمات ألقيت في مناسبات مختلفة، فكرية، علمية وتأبينية، نشرت بعدد من المنابر المغربية والعربية، ما بين سنوات 1998 و2012 وهي كالآتي:

1-               قراءات في كتابات مغربية

2-               كتابات الوداع

3-               في تاريخ المغرب

وبالرغم من كون المؤلف قد رتب عناوين المقالات، خلال الأجزاء الثلاثة، ترتيبا تصاعديا (من واحد إلى ثلاثة وعشرين مقالا)؛ فإنه لم يلتزم بترتيبها وفق سنوات النشر (فقد ابتدأ بمقال يؤرخ لسنة 2010 وانتهى بآخر مقال نشر في 1998). ومعناه أن التقسيم الثلاثي للقراءات، أعلاه، لم يكن سوى إجراء تصنيفي موضوعاتي، ليس إلا. يقع الجزء الأول في مائة وثمان وسبعين صفحة، ويقع الجزء الثاني في اثني وتسعين صفحة. أما الجزء الثالث فيقع في عشرين صفحة.

يضم الجزء الأول خمس عشرة قراءة في كتب مغربية، تفاوتت حجما وموضوعا. فهناك قراءات في السيرة والمذكرات وفي الشعر والترجمة والحكايات. وهناك قراءات في الفكر واللغة وفي الرواية والمنهج وقضايا العولمة. ولا ريب أن القاسمي وهو يروم قراءة الأعمال المختارة، من مجموع الإنتاج المغربي الرحب، يراهن على ما فيها من جدة وإبداع. فكل عمل/ كتاب تطلب منه وقفة متأنية لرصد بعض مضامينه وأفكاره أو إثارة قضية من القضايا الجوهرية التي يطرحها.

هكذا كانت مصاحبته لكتابات عبد الكريم غلاب، محمد الكتاني، مصطفى القباج، محمد التازي سعود، أحمد شحلان، مليكة العاصمي، عبد الكريم الطبال، حسن نجمي، أحمد متفكر، عبد السلام المهماه والشريف محمد القادري وغيرهم. وقد التزم الكاتب في أغلب قراءاته تقديم نبذة عن شخصية الكاتب قبل الحديث عن مادة الكتاب، اعتبارا من قوله إن "الكِتاب من الكاتب كما أن الفرس من الفارس" (ص35). فخلال قراءته لكتاب (جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي) لمحمد الكتاني مثلا، يعرف القاسمي بالكاتب ويثني على شخصيته المحبوبة لدى قرائه وطلابه ويعتبره علامة مميزة في مجالي البحث العلمي الموضوعي ويعده من الشخصيات الموسوعية في تناول الموضوعات ذات الصلة بالأدب والفكر الإسلامي. ثم، بعد التقديم يشرع في معالجة قضايا الكتاب ومناقشة الكاتب في الأفكار والمضامين التي يطرحها. وارتباطا بما استخلصه القاسمي من خصال الكاتب محمد الكتاني، على رأسها الاعتدال والوسطية، يعتبر كتاب هذا الأخير يعكس بوضوح شخصيته ونظرته المعتدلة للإسلام وقضاياه. ومن ثمة، أمكن للقاسمي أن ينظر إلى هذا الكتاب المكون من جزأين "بوصفه دراسة في فلسفة التاريخ أو تاريخ الأفكار عموما والفكر الإسلامي خصوصا؛ لأن المؤلِّف يؤمن بأن تاريخ الفكر أهم من تاريخ الأحداث، فالفكر هو علة الحدث." (ص39)

ولأن طبيعة القراءة لا تنحصر في المديح والإعجاب بالكاتب أو الكتاب فقط؛ فإن القاسمي لم يترك مناسبة، في هذا الجزء من الكتاب، إلا وعبّر عن آرائه ومواقفه إزاء المقروء، مثلما نعثر في حديثه عن مذكرات عبد الكريم غلاب، حيث يقول: "إذا كانت الموضوعية تعني فصل الذات عن الموضوع، فإن هذه المذكرات ليست موضوعية بهذا المعنى، لأن كاتبها ليس مجرد مؤرخ أو باحث يدون مذكراته عن أحداث يشاهدها عن بعدن وإنما هو جزء من الأحداث، ومشارك في صنعها، ويقدم تحليلا شخصيا لكثير منها." (ص19) أو مثلما نجد في تعليقه على حكايات مصطفى عبد السلام المهماه، إذ يقول: "وتذكرنا هذه الحكايات الرمضانية بنوع من التأليف الأصيل في عصر التدوين من تراث العرب الأدبي، وهو نوع كثيرا ما نفتقده اليوم. فقد كان علماء اللغة، في ذلك العصر، يرتحلون إلى البادية لمشافهة الأعراب وتسجيل اللغة كما ينطقونها. وكان الأدباء يضطلعون بجمع النوادر، والملح، والنكت، والحكايات من أفواه الرجال، ويدونونها بلغة بليغة في كتب، صونا لها من الضياع، وتعميما للفائدة، واعتبارا بوقائعها ونتائجها." (ص178)

وبين هذا الموقف أو ذاك، لا يكتفي القاسمي، خلال قراءاته، بوصف الكتاب واستعراض مضامينه فحسب؛ وإنما يقف وقفة القارئ المتأمل والسائل المحاور. يقول: "لماذا كتب حسن نجمي رواية جيرترود ستاين؟ من يقرأ رواية جيرترود لحسن نجمي، ويتمعن في تفاصيلها، ويدقق في بنية فصولها، ويعمل على تأويل أحداثها، يكتشف أن الرواية، من حيث الأساس، ليست عن الكتابة الأمريكية جيرترود ستاين على الرغم من أنها تحمل اسمها عنوانا؛ وإنما تدور الرواية على الدليل السياحي المغربي محمد، فهو البطل الرئيس في الرواية، فبه تبدأ في فصلها الأول، وبه تنتهي في فصلها الأخير." (ص147).

إنها قراءات متنوعة لا تتقيد بموضوع خاص ولا بمنهج قار؛ وإنما انفتحت على مجالات عدة (فكر، ترجمة، شعر، رواية، معجم، حكايات وغيرها) من أجل تقريب مضامينها من المتلقي وإمداده ببعض المفاتيح الأولية لمباشرة القراءة. وفق هذا التصور، المنتصر لفعل الكتابة، تشتغل هذه القراءات عبر لغة واصفة وأفكار واضحة دون أن يتخلى صاحبها، كلما دعت الضرورة، عن إبداء رأي أو تقديم اقتراح. يقول: "إن الحاج محمد القادري علم من رواد الثقافة الوطنية في المغرب المستقل، وسيذكره تاريخ الثقافة المغربية بكثير من العرفان والإجلال. وأقترح أن تنشئ دار الثقافة جائزة سنوية تحمل اسمه، تمنح لأفضل كتاب مغربي. فتواصل بذلك رسالة الحاج القادري، في تنمية الثقافة المغربية، وتكون اسما على مسمى." (ص192)

واللافت للانتباه أن الصورة العامة التي تطبع مقاربات القاسمي لجملة الأعمال المغربية، الفكرية والإبداعية، في هذا الجزء، تتسم بالتنوع والمرونة المنهجية. إنها استراتيجية تتوخى الإسهام في التعريف بالإصدارات الحديثة، والمبادرة في فتح نقاش هادئ مع المقروء، يثري العمل ويفتحه على آفاق قرائية جديدة.

في الجزء الثاني من الكتاب، تطالعنا سبع قراءات تحتفي بكتابات من رحل من الأدباء المغاربة وهم: عبد الهادي بوطالب، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي، عبد السلام البقالين مصطفى القصرين أحمد الأخضر غزال وعبد العزيز بنعبد الله. وبالرغم من أن المقام هنا مقام رثاء وتأبين؛ فإن القاسمي لم يحفل ببكاء الراحلين وذكر مناقبهم بقدر ما حفل بمنتوجهم الفكري والأدبي، باعتباره إرثا غير مادي. ذلك الإرث الذي تمثل في الكتاب وما شمله من فكر وأدب وإبداع. ومن ثمة، نجد القاسمي، في حديثه عمن استحضرهم في هذا المقام، يقرن بين الكاتب/ الراحل، وبين السمات الأدبية والأخلاقية التي ميزته عن غيره. يقول مثلا عن الراحل عبد الهادي بوطالب: "أفترض أن الصفة المركزية التي يتحلى بها هذا الرجل المتميز هو (احترام النفس). فهو رجل يحترم نفسه." (ص198). ويقول عن الراحل مصطفى القصري: "واحد متعدد. واحد فريد بشخصيته الفذة، وأخلاقه النبيلة، وطيبة قلبه النادرة. ومتعدد بالأدوار الوطنية والمعرفية التي اضطلع بها خلال حياته المباركة." (ص254). ويقول عن شيخه عبد العزيز بنعبد الله: "سمعت من بعض زملائي أنك متصوف كبير. فعجبت لقولهم، لأنني لم أر أثرا لملابس الصوف والخرق والجوع عليك، بل كانت أناقتك تضاهي وسامتك، ولهذا سألتك ذات يوم عن التصوف. فقلت لي إنه الإخلاص في العمل، والتمسك بالأخلاق الحميدة التي أقرتها أو أتت بها الشريعة الإسلامية." (ص274).

ولعل تركيز القاسمي على الجانب الأخلاقي عند هذه الشخصية أو تلك، مرده الصلة الوثيقة بين الكاتب وما يكتب. كلاهما يعكس صورة الآخر. كما نجد القاسمي، إضافة إلى ما سبق، لا يكتفي برصد صفات الكاتب فحسب؛ وإنما يعرض لأحد أعماله منوها بما بذله من جهد في سبيل خدمة اللغة أو الأدب أو الفكر والفلسفة. من ذلك إشادته بالراحل أحمد الأخضر غزال وإشارته إلى شهرته "بعمله الخلاق في مجال إصلاح الطباعة العربية وإدخال الحرف العربي في المعلوماتية والحاسوب." (ص263) دون أن نغفل تنويهه بالراحل عبد الكبير الخطيبي حيث الولع بالرمز والافتتان بالحرف وعشق اللغة. يقول عنه: "كان الخطيبي يبحث دوما عن الغريب والمنفلت والمتفرد الذي لا يمكن تأطيره في جنس محدد أو نوع مقيد... إنه مفكر حر مغرم بالترحال والمخاطرة، لا يريد أن يستقر في حيز ضيق" (ص237).

هكذا لا تخل قراءة من القراءات السبع من تعليق أو تساؤل أو إعادة فتح نقاش حول قضية من القضايا، مثلما حصل مع قضية التراث ومفهوم القطيعة المعرفية. يقول القاسمي، بعد عرضه لأهم المحاور التي اشتملها كتاب (نحن والتراث) للفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري: "نستطيع أن نجدد التراث وفق رؤية معاصرة، فننتقي منه النماذج الإيجابية التي تساعدنا على بناء حاضرنا ومستقبلنا، ونترك نماذجه السلبية أو نعدلها. فتجديد التراث يعني اختيار النماذج النافعة من تراثنا اختيارا قائما على الفهم والتميز والنقد والمفاضلة بين العناصر التراثية، وجعل الصالح منها منطلقا إلى الإبداع والابتكار بطريقة تعبر عن ذاتية الأمة" (ص230)

أما الجزء الثالث من كتاب "صياد اللآلئ" فضمنه القاسمي قراءة واحدة متأنية في أعمال ندوة دولية أقامها معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، تحت عنوان (المغرب وإفريقيا جنوبي الصحراء في بدايات العصر الحديث: السعديون والصنغاي). وقد انطلق من سؤال رئيس هو" كيف نفسر أحداث التاريخ؟ يقول: "وشعرت وأنا أتابع تلك البحوث أن التفسيرات التي قدمت تكاد تنحصر في العامل الاقتصادي، وتغفل العوامل الدينية والتاريخية والجغرافية والنفسية وغيرها. وهذا قصور عن بلوغ شأو البحث التاريخي المتكامل الذي يتطلب كثيرا من الإحاطة بالجوانب المختلفة من الموضوع، وتطبيق مبادئ علم التاريخ، والتقيد بقواعده." (ص293)

لقد ظهر القاسمي في هذا الجزء منصتا نبيها ومحاورا هادئا، تمثل موضوعه وتبين إشكاله وما صاحبه من انفلات تحليلي، فانبرى بالحجة والدليل إلى إعادة طرح الموضوع وفق رؤية تاريخية موضوعية لا تغلب جانبا على حساب جانب آخر. يقول منتقدا: "إن تفسير الحدث بمعزل عن الأحداث السابقة له والمتصلة به، أمر لا يقره المنهج السليم والبحث المتأني. فالأحداث التاريخية كأمواج البحر، كل موجة تتأثر بسابقتها، وتؤثر في لاحقتها. ينبغي أن يدرس تدخل السعديين في إفريقيا جنوبي الصحراء في إطاره التاريخي، وأن يفسر في ضوء تدخلات المغرب السابقة في عهود الأمويين والأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين، سواء أكانت تلك التدخلات مدنية أم عسكرية." (ص303-304).      

نستخلص، من خلال مجموع القراءات المتضمنة بكتاب (صياد اللآلئ)، أن القاسمي يتغيا استراتيجية تقوم على الاختيار والضبط وإعمال الذوق، ولا تنساق وراء التعقيد المصطلحي وإصدار الأحكام. ويمكن أن نجمل خصائص هاته القراءة، في ما يلي:

-         تعامل القاسمي في قراءاته مع الأحياء والأموات دونما تمييز. فكلاهما حاضر بقوة، من خلال فعل الكتابة، مثلما كان انحيازه للأعمال المنشورة دون مفاضلة بين الكتاب. فقيمة العمل بما يختزله من فوائد وإضافات تغني الساحة الأدبية، وتدفع بالمتلقي نحو فعل القراءة.

-    اتباع القاسمي منهجية متنوعة في العرض والقراءة. فتارة يشتغل بموضوع الكتاب كله مستعرضا تفاصيله وجزئياته، وتارة يكتفي بمناقشة فكرة أو جزئية منه فقط. كما أنه قد يفتتح مقالاته حينا بتعريف موجز عن شخصية الكاتب وقد يهمل ذكره بمبرر، حينا آخر. مثال ذلك قراءته في كتاب (الاستدلال في معاني الحروف: دراسة في اللغة والأصول) للكاتب أحمد كروم، حيث يدخل مباشرة في الموضوع.

-    اعتراف القاسمي بفضل الكِتاب المتحدث عنه وما وجده من متعة في القراءة تارة، من ذلك قوله عن عمل الجاحظ مسعود: "منحتني قراءة هذا الكتاب متعة فنية لذيذة المذاق، وفائدة علمية فريدة في الوقت نفسه، بفضل ما تجمع لمؤلفه من فكر تربوي تقدمي، وموهبة أدبية أصيلة، وثقافة واسعة عميقة." (ص180) أو الإشادة، تارة أخرى، بأفضال المؤلف ومدى تأثيره في ذائقته وشخصيته. نكر من ذلك ما استحضره من ذكرى تواصله الأدبي مع الراحل عبد السلام البقالي محبوب الأطفال: "أذكر أنني عندما بدأت كتابة القصة القصيرة في التسعينيات، كنت أبعث إليه، رحمه الله، بكل قصة أكتبها لمراجعتها، فكان يعيدها إلي في اليوم التالي مع تصويباته المختلفة واقتراحاته القيمة." (ص247).

-    حرص القاسمي في قراءاته على الدقة والموضوعية، انطلاقا من حصر القراءة في نقط مركزة، واستنادا إلى عناوين فرعية تفي بالغرض[3]. ناهيك عن توسله بشواهد مختلفة تنم عن مرجعية ثقافية شاسعة، وكذا توسله بلغة رشيقة وتعابير دقيقة، تنم عن ذائقة فنية وجمالية[4].

هكذا، يزاول القاسمي في تعامله مع الكتابات المغربية، في "صياد اللآلئ" نقدا تحليليا يزاوج بين الشكل والمضمون. ومن ثمة، يتبين للقارئ طبيعة القراءة لدى القاسمي من حيث وظائفها الثقافية والتربوية، ومن حيث مساراتها التواصلية والمعرفية. كما يتبين نوعية الأسلوب الذي اعتمده حيث المراوحة بين الأسلوبين المقالي والحجاجي.

إجمالا، لقد بدا القاسمي قارئا متمرسا وناقدا متمكنا، لم تخذله حصافته الفكرية ولا معرفته اللغوية من حسن تدبّرٍ لما أنتجه الفكر المغربي في مختلف مجالاته البحثية والنقدية والإبداعية. وقد حق له أن يعتبر صيده الأدبي لآلئ رمزية اصطادها بمهارة الغواص الخبير.

إحالة: نشر المقال في كتاب جماعي، ضمن أشغال الندوة العلمية التي نظمتها شعبة اللغة العربية كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق بالدار البيضاء، بعنوان "إنسانية الفكر والأدب واللغة قراءات في أعمال العلامة الدكتور علي القاسمي.

[1] - علي القاسمي. من روائع الأدب المغربي. قراءات. منشورات الزمن. 2002

[2] - علي القاسمي. صياد اللآلئ في الفكر والإبداع المغربي المعاصر. دار الثقافة البيضاء. 2012

[3] - انظر قراءته لكتاب محمد التازي سعود. ص53-74

[4] - انظر مقالته في تكريم الشاعر عبد الكريم الطبال ص107-116

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعيةمتعددة...
تعليقات
تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. تساءل الدكتور علي القاسيمي في ترجمة له "متى يرتدي همنغواي الكوفية والعقال؟" وتساءلت في ورقة قدمتها عن روايته مرافئ الحب السبعة بصالون زهرة زيراوي رحمها الله "متى يرتدي علي القاسيمي الجلباب الأبيض والطاقية الحمراء؟"

    ردحذف

إرسال تعليق