U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

عبد المجيد فنيش. رجلٌ من زمن الإبداع والإمتاع


 

رجلٌ مُتعدّد المواهب من سُلالة عريقة بمدينة سلا، مُتنوّع المشارب. يستدرجُك، من حيث تدري أو لا تدري، إلى عوالمه الفسيحة حيث الإبداعُ ينتشي مُعَلقا على أهداب الوجود. هو من هو في حقل الثقافة والأدب بالمغرب. يحلق في سماواتٍ شاهقة بأجنحةٍ من حريرٍ بين أبي الفنون والفنّ المكمول. له إسهاماتٌ كثيرة ومضيئة تنِمُّ عن حسّ وطَنيّ رفيع وذوق جماليّ بديع.

انخرط مُبكرا في العمل الجمْعيّ، ولا يزال مواظبا على نشاطه الدؤوب، إعدادًا وتدبيرًا. لم يتنكر لهُويته الاجتماعية، ولم يتخل عن ولَعه بالموسيقى الأندلسية والأمداح النبوية وعشق الشعر الملحون، حفظا وإنشادا وغناء.

إنه عبد المجيد فنيش، أيقونةُ المشهد الثقافي بمدينة سلا. هو المبدِعُ والمُمْتِع. وهو الصّديقُ الأنيقُ الذي يُخْتار قبل الطّريق؛ بل هو كوْنٌ بسِعة الحلم المضمّخ بدَمٍ مغربي خالص. عرفتُه مُغترِفًا من ينابيع المعرفة والفكر والتراث الأصيل. انتصر للهُوية المغربية، في غير ما محفل. وخطّ لنفسه مساراتٍ في درب الخسارات النبيلة.

كان ولايزال، قارئًا جيّدًا ومتابعًا نيّرا، لما جدّ في عالم النشر والكتابة والتأليف. ولأنه مسكونٌ بالحَرْف وحُبّ التراث، ومُنفتِح أيضا على الحداثة بمفهومها الواسِع، لم يقتصر نشاطُه على المحلّي والوطني؛ بل تعدّاهما للحِوار مع الآخَر المُختلِف. يُسايِرُ قلبَه في حُبّ اثنيْنِ، لا ثالثَ لهما هما: فنّ المسْرحُ وفنّ الملحون. وجْهان لحَياة إبداعيّة واحدة.

الأستاذ عبد المجيد فنيش كائِنٌ شغوفٌ ولوعٌ بفنّ المسرح، وله باعٌ طويل في هذا الميْدان الرّحْب، تأليفًا وتمثيلا وإخراجًا. كتب عددًا من الأعمال المسرحية في موضوعات مختلفة، تستند إلى التاريخ والتراث تارة، وإلى الواقع الاجتماعي والسياسي تارة أخرى. لقِيت أعمالُه إقبالا واسعًا من قبل الجمهور السلاوي وغير السلاوي أيضًا. مسرحياتٌ نُسِجت بروحِ الفكاهة كي تُعيد الزّوْرق إلى نبْعِه، فكانت دعوةً لتعزيز القيم الإنسانية والجمالية، وسعيًا إلى بَثّ روح المحبة والوِداد، والدّفء النّوراني للجُمهور العَريض من الشعب المغربي، في تعدُّدِ مرْجِعياته وتنوُّعِ جغرافياته.

ولأنّ الكتابة في مجال المسرح، عند عبد المجيد فنيش، نابعةٌ من خلفيّةٍ تُراثية ومن رُؤية فنّية حَداثية، في آن، فقد ضمّنها حِكما مبطّنةً ورسائلَ مُشفرَةً، عبْرَ وسيط اللغة، في بَلاغتها وانْسيابِها الدلالي والجمالي والإيقاعي، مثلَما ضمّنَها رسائل أخرى مُشْبعة بالوضوح والطّموح وظفتْ خلالها لُغة الجَسد، بأبْعادِه التّصويرية المتعدّدة.

وبين هذا وذاك، يتأبّطُ الكاتب فكرتَهُ ويتّجِه صوْبَ مُتلق خاليَ الوِفاض إلّا ِمن حُلم بغَدٍ مُشرق ودَهشَة عُبور إلى الضفة الأخرى حيثُ الامْتِلاء والانْتِشاء. ولا غرابَةَ أن تستوعْبَ نُصوصه مرجعياتٍ تُراثية ودينية وسياسية وثقافية، تؤثث بها رحلة السّفر إلى المعْنى المُراد. ناهيك عن تلك الفُسح الفنية التي يتم فيها استحضار باقةٍ من الأغاني القديمة الرّائقة، وعيّنة من ذخيرة الأمثال والألغاز والعِبَر السيّارة.

لقد كتب فنيش باللهْجة العامية، ليس لكونها سهلة المأخَذ، كما يُرَوّج؛ وإنما بالنظر إلى ما تحْويه من إمكانيات التعبير المدهش عن مختلف القضايا والظواهر والمظاهر، استطاع بوعيه الفني أن يُحوّل الكلام إلى صور ومشاهد وموضوعات، ويحوّر الصمت إلى حالات ومواقف وسلوكيات. وهو ما كنتُ ألاحِظُه حين أتابع بعض عروضه المسرحية، وقد تخللتها بعض القفْشات السريعة والطّرف العجيبة التي تروم الإيحاء والتلميح أكثر من التقرير والتصريح. ولعل في اختيارِه لهذا المُعطى اللغوي لم يكن سوى تأكيدٍ على أن الدارجة أو الدّوارج المغربية، حمّالة أوجُه، مجازًا واستعارةً وخيالًا وإيقاعًا. وكم من صيَغٍ وتراكيبَ عنده، جاوزت معناها السّطحي إلى المعنى الواسِع العميق.

لقد تيسّر لي حضورُ عددٍ كبير من الأعمال المسرحية لعبد المجيد فنيش، (يا ليل يا عين، سيرك الدنيا، ديوان المعاني، ملحونية اليوم، ديما معانا،، وغيرها) وقد وجدتُ أغلبها لا يخلو من أدبِيّة ومن إشراقاتٍ وتحليقاتٍ فنيّة ترومُ الإقناع والإمتاع والمؤانسة. فبين تأليفٍ وتمثيلٍ وإخراجٍ، تبدّى لي صوْتًا صادِحًا بملء الفرح وشاهدًا على عصر مُتحوّلٍ يذهَبُ مثقفوه بعيدًا في التّجديد انطلاقًا من الرّاهن واسْتِشرافًا للمُسْتقبل.   

وغير بعيدٍ عن الترّاث المغربي، في شقِّه اللامادي، شقَّ عبد المجيد فنيش طريقًا إلى الشّعر الملحون، جمعًا وتدْوينًا وتعريفًا، كما انْحاز لأفقه الجمالي، لغةً وبناءً وإنشادًا. ومن ثمة، أجِدُه قدْ صار في الاتّجاه الذي يعتبرِ الشعر الملحون رافدًا من روافد الثقافة المغربية المتنوعة، وعملًا إبداعيًا لا يقل أهميةً وتأثيرًا عن نظيره المكتوب باللغة المِعْيار. لذلك كان من المنافحين عن هذا المُنْجز الشعبي والمضي به قُدمًا نحو الاعتراف به عالميا، من قبل منظمة اليونسكو، وتسجيله ضمن دائرة التراث الإنساني.

كتَب فنيش عن الملحون وفيه اختزل عشقه وجنونه. كان صوته المنافح عن عبقريته ونبوغ شعرائه، من خلال العديد من وقفاته التأملية ونظراته الفكرية في هذا الموروث الشعري الفسيح، تمثلت في برامجه الإذاعية وحواراته الصحفية، المقروءة والمسموعة والمرئية.

حين عرفتُ عبد المجيد فنيش، باعتبارِه وجْهًا من وجوه الثقافة بمدينة سلا، أكْبَرتُ فيه حسَّهُ الإبداعيّ وتقديرَه للكُتاب والمثقفين وحُبَّه الكبير لأبي الفنون. محَطّاتي معَهُ كثيرة ووفيرة، أذكُر منها مثلا، بعض المشاركات في لقاءات وندوات ثقافية مختلفة، من تنظيم جمعية أبي رقراق، حول الأدب أو الشعر الملحون وأعلامه. أما بشأن المسرح، فقد تيَسّر لي أن أحضر بعض ورَشاتِه في الإخراج، منها نص "طوق الحمامة" حيث قدمت بحِرَفيّة عالية من طرف أعضاء فرقته المسرحية، قبل عرضها الأول على الجمهور.

أدركت، خلال تلك الفترة، مدى حرصِه الشديد على إتقانِ العمل وانتباهِه الذكي لأدق التفاصيل والجزئيات أثناء عرض الممثلين والممثلات، صوتًا وحركةً وتفاعلا. ولعل من جمالية اللحظة أن أشركني في النقاش، دليلا على رحابة الصدر والأخذ بالرّأي.

أما متابعتي له في أنشطة يأخُذ فيها الكلمة مُنَشّطًا أو مُشاركًا أو مُعَقّبا، فقادتني لأكتشِفَ خِفّة دمِه وشسوعِ فكره وبلاغة تعبيره. كان صاحبَ نكتة وضاربَ أمثالٍ، حلوَ الابتسامة يتحرك بعنايةٍ مدروسة، ولا يستعجل الكلام. يُجيد النّقد والسّخرية ويوظّفُهما كلّما استدعت الضرورة ذلك، بحسب السّياق والمقام. وبعيدًا عن ذلك، أشهَدُ أن نُبْله الأخَويّ ودماثة خلقه تُحاصرني بالمَحبّة الدائمة. صداقتُه كنزٌ ثمين، وحُضوره نوعيٌّ، ومجالسَتُه متعةٌ فائقةٌ، ونزهةُ خاطرٍ في حدائق القلب. ولا عجَبَ، فالشيءُ من معدنِه لا يُستغرب.

أحيي أخي وصديقي عبد المجيد فنيش، وأشُدُّ على يديْهِ بحَرارة، فبصمتُه في الشأن المسْرحي، وطنيا وعربيا، والبحث في الشعر الملحون ظاهرة للعيان. كما أنّ تدبيرَهُ الثقافي لعدد من المهرجانات، ينِمُّ عن فهم عميق لما تمثله الثقافةُ من أهميّةٍ في تطوير المُجتمع وتنويرِ أفراده.

يُدهشني دومًا اجتهادُه في تنويع الموضوعات ومقترحات التنشيط. فهو إذْ يستحضِرُ التنوع الثقافي للبلاد، بما فيه من غنى الموروث الشعبي، لا يستبعِدُه في برامجِه، محليًّا وجهويًّا ووطنِيًّا.

أخيرا، وليس آخِرا، عبد المجيد فنيش أديبٌ ومثقفٌ وفيٌّ لِذاته ولمشروعه. بَهيّ وسَخيّ، سريعُ البديهة ولَهُ قدرة على الارتجال الأنيق. حاتميُّ الكَرَم، لا تُنْكَرُ أفضالُه على الثّقافة والمَدينة. وسيظل، بلا منازع، أيْقونةَ المشهد الثقافي في سلا. فهنيئًا لنا بِه أخًا وصديقًا وفنّانًا أصيلا، وكاتِبًا جميلا.

+++++++

نشرت الورقة بالملحق الثقافي لجريدة العلم. الخميس 4 أبريل 2024

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
4 تعليقات
إرسال تعليق
  1. شهادة رفيعة رافعة. من لا يشكر الناس لا يشكر الله.

    ردحذف
  2. التفاتة معتبرة

    ردحذف
  3. نعم الاختيار نعم الموضوع ونعم كاتبه
    شهادة حق في قامة من قامات المشهد الثقافي والفني بمدينة سلا ان لم نقل المغرب ككل والجميل في الامر هو ان كاتب الموضوع ابديضا قامة من قامات المشهد الثقافي بسلل وبالمغرب
    فاطمودة المنصوري سلل

    ردحذف
  4. السي عبد المجيد فنيش رجل مسرح بامتياز وهب حياته كلها لابي الفنون. يستحق هذه الشهادة. بوركت أستاذ أحمد اختيار موفق

    ردحذف

إرسال تعليق