قليلا.. ما تجود عليك الأيام بصفوها؛ لكنها.. حين تشاء، تمطرك بفيض عطائها. وأيّ عطاء أجمل من ذاكرة خصب تغالب النسيان! لعلها ذاكرةُ من تعددت محاسنه وارتقت مكارمه، فمن يكون غيرُه؟..
إنّهُ، مصطفى الشليح، صاحب الفضل والإحسان الذي عاش، ولا يزال، أثرا طيبا في الذاكرة والوجدان. أدركته حرفة الأدب، فصال في المجال شاعرا مجيدا ترافقه القصيدة، أينما حلّ أو ارتحل.ربما، لو ابتغيت وصفا وديعا، أو رسما بديعا لشخصه النبيل، لن تبلغ الكلمات غايتها في البرور والوفاء. فهو لم يكن مجرد موظف في مجال التعليم يقوم بواجبه على أتمّ وجه فحسب؛ وإنما فاعلا تربويا ومعلّما ملهِما، بما تحمله كلمة "مُعلّم" من بهاءٍ وسمُوّ وقدرةٍ على التأثير. هو "مُعلّم" بالأفق الذي يظلُّ وفيّا لمعنى الرّيادة والنّباهة والحكْمَة الممتدة في اللغة والتدبير والتأويل.
إنه الأديبُ الذي سكنتْهُ الأشعار ودهشة الاستعارات، تُدووِل اسمه في المشهد الثقافي المغربي والعربي، عبر سلسلة من الإبداعات الشعرية والمقالات النقدية والدراسات الأكاديمية. عرفْتُه شغوفًا باللسان العربيّ حدّ الانتشاء، بلاغةً وجرسًا وبيانًا. لا ينشغل بالظهور في المحافل والملتقيات ولا يكترث بحمّى الأضواء. مخلص لمهنته دون ادّعاء، يأخذك، خلال حديثه، أثناء الدرس أو خارجه، صوب سماوات الفكر والفنّ والخيال. لا يعدمُ درسُه من متعةٍ وفائدة، ولا من أنشطة داعمة.
هكذا، كلما عادت بي الذكرياتُ، تحديدًا زمن الثمانينيات من القرن الماضي، استحضرت يوم التحقت بالسلك الثانوي، مزهوا ككل الناجحين أمثالي، تقودني رغبة إثبات الذات في اختيار شعبة الآداب، عن سبق إصرار وتطلّع. غير أني، مع بداية الموسم، استحضرت انزعاجا من مقرر دراسي طويل، وتوجّسًا من كمّ الدروس وهَوْل الفروض والامتحانات المبرمجة، خلال مدار السنة.
وتشاء الأقدارُ، بعد مرور بضعة أسابيعَ من انطلاق الدراسة، أن يلتحق الأستاذ مصطفى الشليح بثانوية صلاح الدين الأيوبي بسلا، لتُسنَد إليْهِ تدريسية مادة اللغة العربية لتلاميذ قسم (الخامسة أدبي 4)، حيث كنتُ مسجلا. أذكر، دخل الفصل مرحبا بلغة عربية فصيحة، لم نألفْها -نحن تلاميذَ المرحلة- من قبل، ثم شرع في تقديم الدرس وتذليل صعابه بأريحيّة كاملة. تألّقَ في الحديثِ عن تاريخ الأدَبِ وعُصوره الذهبية، وأعجبت بطريقة شرحه المفصّل والميسّر في آن، كما راقني تحليلُه للنصوصِ الأدبيّة والنقديّة وفق خطاطاتٍ توضيحية وخرائط ذهنية ملائمة.
كان مصطفى الشليح، في درسِه مفيدًا ومُستفيضًا. يحْكي عن تاريخ الأدب وأعلام الثقافة والفنون، كما لو كان شاهدَ عصْر. يُحاور النصوص وأصحابَها، ويستدعي مصادرَها ومعاجِمَها، ويُدقق في تراجم أدبائِها وشعرائها، ويحيل إلى المناهج وأدواتها، وكنتُ، بين هذا وذاك، أصغي وأتابعُ في صمتٍ واندهاش.
بعد فترة، غير يسيرة، استأنست بهِ مُعلّما مُلْهِما، أديبا وشاعرا بليغ اللسان. لم يتوَسّل في دروسِه باستدعاءِ الإملاءات المرهِقَة، إلا في النادر من الحِصص حيث يُذكّر، كلما لزم الأمر ذلك، ببعض الإفادات والإحالات، ارْتِجالا ومن الذاكرة. كان بارِعًا في التحليقِ بمتعلميه نحو مساحاتِ الفكر والنّقد والتّحليل، وكان، بحِسّه التربويّ، يُجيد الإنصاتَ إلى تدخّلاتهم وملاحظاتهم ويخُصّها بكثير من العِناية والتقدير.
هكذا، بعدما تلقّيتُ نتيجةَ أول اختبار، همّ تحليل نصّ أدبيّ، فهمتُ أنّ حُبَّ الأدب وحدَهُ، لا يكفي؛ بل لا بُدّ من جرعة مُضاعفة من القراءة والتحليل والإنصات الجيّد للمكتوب. وهو ما دفَعني إلى تنويع رصيدي من المطالعة الأدبية وقراءة الملاحق الثقافية، وشراءِ الكتب النقدية واقتناءِ أشهر المجلات المتداولة آنذاك. ومن ثمة، تسرّبَت إلى مداركي بعضُ ملامِح المُعَلّم المُلْهِم، في أبْهى صوره وتجلياته، فصِرت أقلّدُ نماذجَ من الكتابات الأدبية وأجتهدُ، ما أمكن، في تجويدِ إنشاءاتي وأتمَرّن على تعبيرات شفهية مرتجلةٍ، على سبيل الاختبار.
أذكر، أيضا، قُبيل نهاية السنة الدراسية، أن طرقتُ بابَ منزله بسلا، لأول مرّة، فكان أن استقبلني بابتهاج وطمأنني بالنجاح؛ ثم أضاف: "أتشُكّ في نجاحك؟ لقد نوّهَ بِك أساتِذتُك؛ بل هناك جائزة تنتظرك من المؤسسة، اذْهبْ لسحبِها". كانت الجائزة عبارة عن حزمة كتب تربوية وأدبية من بينها: ثلاثية "الأيام" لطه حسين، ورواية "دفنّا الماضي" لعبد الكريم غلاب. كان إحساسًا جميلا بمُصادقة الكِتاب والذّهاب رأسا نحو اكتشاف عوالمِه وأخيلته الواسعة، ومن ثمة، الظّفَر ببعض شحناتٍ من لذّة القراءة.
ولا ريب أن مُعلّما، بهذه الروح الملْهِمة والإحساس الفيّاض، لا يمكِنُ إلا أن يزيدَك ولعا بدرس الأدب وحبّ اللغة العربية، فقد جعلني متحمسا أكثرَ، لتجديد ثقتي في اختيار الشعبية الأدبية وتأكيدها إداريا، دونما إحساس بالنقْص أو الدّونية. لقد قادَني نحو فضاءات معرفية مختلفة تنتصر لجمال اللغة وبلاغة القصيدة ورحابة الخيال.
وتشاء ُالأقدار، للمرة الثانية، أن يكون مصطفى الشليح ضمن مجموع أساتذة قسم (السادسة أدبي3) الذي كنت أنتمي إليهِ خلال تلك السنة، حيث واصلت النهل من معين فكره في مجال الفكر والأدب، لغةً ونصوصًا وبلاغةً وعَروضا. لم تختلف هذه السنة عن سابقتها من حيث المتعة والفائدة، دروسا وأنشطة، من خلالها استشعرتُ، مرة أخرى، قيمةَ الأدب والنّقد والسؤال، دون التقليل من همّ الإبْداع وجدوى الانْفِتاح على اللغات والثقافات الإنسانية. كما استشعرتُ، تبعا لذلك، أنّ اللغة العربية لم تكنْ مُجرّد لغة للتواصل فقط؛ وإنما لغة َحضارةٍ وتاريخٍ وإبداع، استنادا إلى ما تضمّنَه الكتابُ المدرسي من نصوص ذات ارتباط بالقيم الإنسانية والجمالية، واعتمادًا على ما كان يَستدِلُّ بهِ، أثناءَ الشرح والتحليل، من أقوالٍ وأشعار من محفوظِه الخاص، تنِمُّ عن ذاكرة قوية وذخيرة فكرية وأدبية.
أذكر، مِمّا أذكر من حصص تدريسية، كيف بسط قضية الصراع بين التقليد والتجديد، وقضية النظم عند الجرجاني والموازنة عند الميداني، وكيف حلّل شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري وابن زيدون، وكيف أشادَ بشعر الحلوي وعلال الفاسي ومن حذا حذوهما، وكيف احتفى بكتابات الجراري والمنوني وابن تاويت وكنون. لم تكن حصصا للإلقاء والإملاء؛ وإنما لحظات إمتاع واستمتاع، تخطيطا وتدبيرا.
لقد ظلّ مصطفى الشليح، خلال تلك الفترة من التعليم الثانوي، مُعلّما مُلهِما في جل ما كتبتُ من موضوعات وتعبيرات، حِرصًا منهُ على تثْمين فِعل القراءة وتعميق التحليل وتجويد الأسلوب، والتشجيع على المبادرة والمناقشة أثناء الإجابات أو إلقاء العروض. ولعلّ أجمل ما أستَحضِرهُ، في ظلِّ الذاكرة المستعادة، يوم تكرّم بنشر إحدى مُحاولاتي التعبيرية بجريدةٍ وطنية تعنى بكتابات الشباب، شكّلت حافِزا مباشرا للمُضي قدما نحو أفق الكتابة والإبداع. وقد اختار عنوانها مما تضمنته المقالة من أفكار، تجسّدت في عبارة: "اندماج الثقافات والحضارات البشرية"، نشرت بتاريخ 8 دجنبر 1981. بمثل هذا الصنيع، وجدتُني قاب قوسين أو أدنى من عوالم التعبير والكتابة.
سنتانِ فعليّتان، عرفت خلالهما شخصية المُعَلّم المُلْهِم عن كثب، شُعلةً من إبداع وقبسًا من نور العلم والجلال. حبّبَ إليّ المُطالعة وفجّر فيّ ولَعَ البحث في دروب الأدب، نبْشًا وتنقيبًا ومُراجعَة. لذلك، لا غرابة أن اسْتبَدَّتْ بي رُفوف المكتبات لأطالِعَ أو أسْتَعيرَ ما بها من كتب في النّقد والبلاغة والتراجم والتاريخ والفلسفة والموسيقى والتراث. فكانت تلك المطالعات المتنوعة خير زادٍ، وأيّ زاد.
غير أنه، بالرّغم من أنّ الأقدارَ شاءتْ ألا يُواصل معنا المشوار بالسنة السابعة باكالوريا (الثانية باكالوريا حاليا)؛ فإنّ حبْلَ الودّ لم ينقطع. أذكُر يوم بعثتُ إليهِ برسالة خطية، عبر البريد أبارك له العيد وأشكر له الدعم التربوي والمؤازرة المعنوية، أن جاءني الردّ سريعا ومحفزا. هذا نصها:
"سلا في 26-07-1982.
بسم الله الرحمان الرحيم.
عزيزي أحمد. تحية طيبة.. وبعد..
بدءا، هنيئا بالنجاح. وعيد مبارك سعيد. وشكرا على رسالتك الرقيقة التي وردت علي في بدايات شهر رمضان معبرة عن مشاعر كانت مختزنة، فلما تدفقت تدافعت كسيل أتي، وتزاحمت بداخلك تزاحم قطيرات الموج المنفلتة من البحر لتعانق تبر الرمال. ما كان لا يستوجب شكرا، وما كان لا يستدعي مديحا، وما كان لا يحتم إطراء. إنه الواجب المقدس في أسمى معانيه وأصفى تجلياته. وهو واجب لا يخلفه ولا يخل به إلا ذوو الضمائر الضحلة، والذين في قلوبهم مرض. ومع ذلك، وبين هذا وذاك كان ارتياحي عميقا وأنا أقرأ رسالتك، وكان سروري مضاعفا عندما أثمرت البذرة التي غرسها أبواك، ولم أتول رعايتها سوى عامين. إن أجمل هدية يمكن أن تقدمها لي هو نجاحك في الدورة الأولى من امتحان الباكالوريا الذي أنت مقبل عليه. وهو امتحان ليس بالهين ولا بالعسير، بل فقط يتطلب المثابرة والمواظبة. ولعمري فهما خصلتان عهدتهما فيك مدة عامين. فاجتهد لتقدم لي تلك الهدية.
سلامي إلى أبويك وأسرتك وأصدقائك والسلام عليك ورحمته وبركاته...
مصطفى"
وعندما تحقّقَ الرجاءُ، شاركتُ الأستاذ فرحةَ النجاح وأخبرته بنيّة التسجيل بكلية الآداب بالرباط، حيث وطدّت صلتي بالمكتبة وعالم الكتب وداومْتُ حضورَ النّدوات والأطاريح الجامعية في مختلف التخصصات. خلال هذه الفترة لم تنقطع صلتي به قارئا وباحثا ومحاورا. أذكر هنا بعض اللقاءات العابرة التي جمعتنا، تحديدًا في فضاءين مُفضّلَيْن لديه بسلا، هُما: فضاء (مقهى الموعد) أو فضاء (الخزانة الصبيحية)، حيث إقامتُه الرمزية بين المصادر والمخطوطات والفهارس والمؤلفات. وكمْ كنتُ أطرب حين أقرأ له شعرا منشورا بالملحق الثقافي لجريدة العلم، أو أطلع على إحدى دراساته عن الأدب المغربي، في بعض المجلات المغربية كالمناهل ودعوة الحق، أو العربية منها علامات في النقد وغيرها.
حين التحاقي بالمركز التربوي الجهوي بالقنيطرة (موسم 1986-1987) وانخراطي في عوالم التربية والتعليم، علمتُ بخبَرِ الإعلان عن موعد مناقشة رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا بتاريخ 16 أبريل 1987، بإشراف الراحل عباس الجراري وعضوية الأستاذين أحمد الطريسي وسعيد علوش.
نعمْ، حضرتُ أطروحته بكلية الرباط حول "النهضة الأدبية في سلا" حيث لا أزال أحتفظ بما كنت قد دوّنتُه من نقطٍ وأفكار أثيرت أثناء المناقشة، كالحديث عن مفهومي النهضة والثقافة، وقضية النزعة السلاوية، وكذا الإشارات إلى مظاهر وتجليات البعد الثقافي وتنوعه في سلا.
أذكرُ مما أثارني أيضًا في ذاك المحفل العلمي، طريقة (الطالب الباحث) مصطفى الشليح في الدفاع عن مشروعه، إذ لم يكتف بما درَجَتْ عليه ردود الباحثين، في هذا الزمان، بما مفادُه: (أشكر أعضاء اللجنة العلمية على الملاحظات القيمة، وأعِدُهم بالعمل على تصحيح كل الأخطاء الواردة في العمل، وشكرا).
الواقعُ أن هذه المناسبة جسّدت لحظة فارقة بالنسبة لي، تعمقَتْ فيها رغبتي في مواصلة الدراسة والتحصيل، وتجدّدتْ نزعتي في الكتابة والإبداع، لذلك، كان السعيُ حثيثا إلى إعادة التسجيل بكلية الآداب، بعد سنتين من الوظيفة بالسلك الأول خارج الرباط.
وبين هذه المحطة أو تلك، استمرتْ لقاءاتُنا العلمية والأخوية، خلال تلك الفترة، عن طريق تبادل الرسائل تارة، أو عبر الاتصال الهاتفي أو عقد المواعد تارات أخَر. لعلّ أجملَها ردُّه على رسالةٍ لي، كنتُ قد بعثت بها إليه، وكان الرّد شِعْراً، هذا نصه:
"سلا في 13 يناير 1992
عزيزي أحمد..
لغـة الــقــلـب فــراشــاتُ الكـلامِ |
| حائمات حــول سلسال ســـلامِ |
مع متمنياتي لك بالتوفيق والتفوق كما عهدتك دائما.
مصطفى"
بعبارةٍ جامِعة، كانَ مصطفى الشليح الأخَ الأكبر الذي لم تلده الأمّ، وكنتُ الأخ الأصغر، كما كان يحب أن يقول. أعودُ إليه في كل اسْتِشارة، فكان نعمَ الصديقُ والرفيقُ والنّاصِح والمُصاحِب، في القُرب كما البُعد.
فلَهُ أن يفْخر بمساره العلمِيّ وعطائه الأدبي مُعَلّما مُلْهِما، ولي أنْ أُعْرِب عن امتناني واعتزازي بهِ إنسانَا جديرًا بكُلّ انْتِباه. ولعَلّي أكتفي بهذِهِ الملامح من سيرة مُعلّمٍ مُلهِم، اسمُه مصطفى الشليح، تجْسيدًا لثقافة الاعتراف في زمن عَزّ فيه الاعتراف.
أما عن ذِكْرِ وسَرْدِ ما تبَقّى من فُصول صداقتنا الإنسانيّة، بنقاشاتها العلمية والثقافية المُمتدّة، وما رافقها من مُصاحبات فكرية ونقدية في مناسبات عدّة، من تسعينيات القرن الماضي إلى الألفية الثالثة،، فتلك حكاية أخرى.
-----------
نشرت هذه اشهادة بالملحق الثقافي لجريدة العلم. الخميس 26 شتنبر 2024
إرسال تعليق