U3F1ZWV6ZTkyMzU4Njc2MzA1NjBfRnJlZTU4MjY3ODM5MzQ1ODI=

واقِـعُ المُصاحـبَة الميْدانـيّة والبُعـد التبصُّري للمهْنَـنة


 

 1-    تقديم

لا شك أن المتتبع لمسار الإصلاح التربوي بالمغرب، الذي توالت أوراشه الكثيرة في السنوات الأخيرة، يلاحظ كبير العناية التي باتت توليها وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة للمنظومة التعليمية ببلادنا، باعتبارها وصية على القطاع. وفي هذا السياق، تركز جزء من هذه الإصلاحات المتوالية، على جوانب تتعلق بمجال البرامج والمناهج، تارة وبمجال الخطابات البيداغوجية البديلة، في علاقتها بمنظومة القيم، تارة أخرى.

ولأن أمر التكوين بالمراكز الجهوية، يعد مدخلا مهما لقياس مدى تحقق الغايات التربوية المنشودة في منظومة الإصلاح، فقد انصبّ الاهتمام على بلورة طرق جديدة وعرض مقاربات حديثة تراهن، من قريب أو بعيد، على مدى انخراط مختلف المتدخلين في المجال، من أطر إدارية وتربوية وهيئة تفتيش وأساتذة مكونين. كما لم يكن التلميذ/ المتعلم، بمعزل عن هذا الطموح الإصلاحي، باعتباره معنيا، بشكل أو بآخر، بهذا الإصلاح، من خلال إثراء رصيده المعرفي وتنمية مهاراته وتحصين سلوكياته، داخل وخارج الفصل الدراسي.

لكن، هل يتحقق هذا المبتغى، إذا لم نهيئ للمتعلم مدرسين أكْفاء قادرين على تعزيز تواصلاته مع المحيط التربوي ومع المادة الدراسية، كاللغة العربية مثلا؟ بل كيف نستقطب هذا المدرس/ النموذج، أصلا، إذا لم نستحضر جودة التكوين وامتداداته المهنية، على المدى البعيد لا المتوسط أو القريب فحسب؟ ثم ماذا عن رزنامة التكوين وعدته، في شقيهما النظري والتطبيقي؟ وما نوع العلاقة التي تجمع بين المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين ومؤسسات التطبيق؟ وأي تفاعل ملموسٍ نرقُبه ونترَقّبه بين الأستاذ المصاحب والأستاذ المتدرب؟..

هي أسئلة، وأخرى ضمنية، تروم المداخلة إثارتها ومحاولة الإجابة عنها، في سياق الحديث عن دور المصاحبة الميدانية في تجويد التكوين والارتقاء بالمهننة. كما تروم الحديث عن الأستاذ المصاحب وعن مواصفاته ووظائفه، وكذا عن دوره المركزي في بلورة مضامين هذا التكوين الإجرائي، في بعده التبصري، لدى الأستاذ المتدرب.[1]

تندرج المصاحبة الميدانية، كما هو معلوم، في سياق تعليمي يجمع بين النظرية والتطبيق، من حيث استكمال البرامج الخاصة بتدبير عدة تأهيل هيئة الأساتذة المتدربين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وفق غلاف زمني محدد، يُدَبر خلال فترة معلومةٍ من عمر التكوين. والواقع، أن الحديث عن مفهوم المصاحبة الميدانية، في هذا السياق التكويني، لا يتم بمعزل عن مفهوم التداريب كذلك. فما المقصود بالتداريب الميدانية أولا؟

2-    حول التداريب الميدانية

إذا كان أمر التكوين داخل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، يقوم، في جزء أساس منه، على تدريس عدد من المجزوءات النظرية والمجزوءات المستعرضة ومختلف الأنشطة التربوية والأشغال التطبيقية المصغرة؛ فإن الجزء الثاني من هذا التكوين له علاقة مباشرة بمحطة التدريب الميداني، باعتباره، كما ورد في دليل الأستاذ المستقبل، "نشاطا لاكتشاف الواقع المهني خارج أسوار المركز، وتطوير الكفايات المهنية، فهو فترة تجمع بين عدد من أنشطة التمهين والمهننة المنجزة داخل المؤسسات التعليمية، يتم التحضير لها واستثمارها داخل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، في إطار التناوب المدمج القائم على أنموذج عملي-نظريعملي"[2].

يستشف من هذا التعريف أعلاه، أن عملية الانفتاح على المؤسسات التعليمية تستهدف استكمال البعد التبصري للمهنة لدى الأساتذة المتدربين، على اختلاف مستوياتهم المعرفية وتفاوت قدراتهم الاستعدادية. وأن اختصار التدريب الميداني في مجموعة من الأنشطة الواقعية التي تمارس بشراكة مع مختلف الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، داخل المؤسسات التعليمية، يجعل، هذه الأخيرة، حاضنا رسميا وفعليا لهذه الممارسة التكوينية، وحصنا منيعا لها من العبث والارتجالية.

كما يعد، هذا التدريب الميداني، بمثابة الوجه الآخر للتكوين النظري بالمراكز الجهوية، عبر تحويل المكتسبات البيداغوجية والديدكتيكية إلى منبر قابل للملاحظة والوصف والإنتاج وتحليل الممارسات، بكثير من الحرص المنهجي والحس التربوي المستهدفين.

وانسجاما مع هذا المسعى التكويني الصرف، تضع التداريب الميدانية أولوياتها الإجرائية في التركيز على إكساب الأساتذة المتدربين (أطر هيئة التدريس) لأهم الكفايات المحققة لفعل المهننة، بشكل تدريجي وتسلسلي مسبق، بما فيه التعرف إلى المحيط المدرسي عامة، واستحضار البعد التدبيري لمختلف الوضعيات التربوية المرتبطة بمكونات المادة المدرسة، وبالتلميذ وتفاعلاته المختلفة، داخل الفصل الدراسي، على وجه الخصوص. وتبعا لذلك، تصبح مؤسسات التطبيق التعليمية، مختبرا حقيقيا للممارسة التعليمية التعلمية، سعيا نحو بلوغ التناغم والانسجام بين باقي المجزوءات المقترحة بعدة التكوين، إن نظريا أو عمليا.

واستنادا إلى الوثيقة الإطار، الخاصة بتدبير الجزء التطبيقي من تكوين أطر هيئة التدريس، تم اقتراح عدد من المحطات التربوية التي تراعي الاندماج المرن لهذه الفئة المتدربة، إعدادا وتأطيرا وإنجازا وتقريرا. فإذا كانت المحطة الأولى من التداريب الميدانية قد خُصصت، مثلا، لمرحلة الاستقبال والعمل على إدماج الأستاذ المتدرب والأستاذة المتدربة في صلب المحيط الدراسي الخاص بمؤسسات التطبيق، انطلاقا من الملاحظة والمعاينة الأولية لمختلف مرافقها والمكونات التابعة لها؛ فإن المراحل اللاحقة، تم تقسيمها وفق أسابيع تحتكم إلى دفتر التحملات، الذي عُدَّ سلفا لهذا الغرض.

ارتبطت، هذه المراحل المتلاحقة، بوضعيات مهنية متعددة، وكذا بإجراءات تنظيمية محددة، تتصل أساسا بفضاء القسم وأحوال التلميذ وبناء الدرس وتدبيره عمليا. ومن هنا انبثق الحديث عن موضوع المصاحبة الميدانية، ومهام الأستاذ المصاحب وأدواره، بالإضافة إلى التساؤل عن وظيفته المتمثلة في الارتقاء بجودة التكوين.

فماذا عن مفهوم المصاحبة الميدانية وما هي عناصرها ومكوناتها في مجال التكوين؟

3-    حول المصاحبة الميدانية

تشكل المصاحبة الميدانية رافعة أساسية من شأنها الإسهام في قيادة التغيير، مع العمل على تمكين الأساتذة عامة، من فهم الغاية من التجديد التربوي. في هذا السياق، صدرت مذكرة وزارية بشأن "المصاحبة والتكوين عبر الممارسة"، تحت رقم 19/099 بتاريخ 30 شتنبر 2019، يتأطر دورها في تنظيم العلاقة القائمة بين التكوين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، القائم على المجزوءات والعناصر المتعلقة بالمعرفة النظرية لفائدة أطر الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين (هيأة التدريس)، وبين الأنشطة التي ينبغي أن يقوم بها الأستاذ المتدرب داخل مؤسسات التطبيق بإحدى المديرات التابعة للأكاديمية المعنية، بإشراف أستاذ مصاحب أو أستاذة مصاحبة، ممن يشهد لهم (ن) بالخبرة والكفاءة المهنية مع الإنصات الجيد والتواصل المواكب لأداء الأساتذة المتدربين، خلال ممارستهم المهنية. وهي العملية التي تم دعمها وتثمينها والعمل بها " انطلاقا من تقارير الزيارات الميدانية لأجرأة المصاحبة والتكوين عبر الممارسة التي أكدت على أهمية هذه الآلية في تأهيل أطر التدريس للاضطلاع بمهامهم وتعزيز التنمية المهنية لديهم والارتقاء بالتجديد التربوي."[3]

بهذا المعنى، تتحدد المصاحبة الميدانية، في إشراك عينة من الأستاذة المزاولين لمهام التدريس من خارج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، ينتمون لإحدى المؤسسات التعليمية العمومية بالجهة، حيث تتوفر في الواحد منهم بعص المواصفات والشروط الخاصة، التي تنسجم ومهامه الجديدة، منها الخبرة والأقدمية والحافزية والأهلية.[4]

هكذا، بحكم قرب الأستاذ المصاحب من العملية التعليمية التعلمية، وانخراطه في المواكبة الفعلية للممارسة الميدانية للأساتذة المتدربين، كان له عظيم الأثر في تمثل البعد التبصري لمهنة التدريس لدى هذه الفئة. وهو الرهان الذي قام عليه الإصلاح الجديد، من حيث إعادة النظر في كيفية تدبير مراحل هذه المحطة وتضمين صيغها المتنوعة داخل مؤسسات التطبيق، سواء أكان حضوريا أم عن بعد، حسب الإمكانيات والظروف المتاحة.

لا غرابة إذا، أن تتعدد أنواع المصاحبة بتنوع مجالات تدخل الأستاذ المصاحب، بين ما هو بيداغوجي ونفسي واجتماعي ومادي. غير أن بعض المقاربات التربوية، تركز في تعريفها للمصاحبة الميدانية في كونها إجراء عمليا له وظيفة بيداغوجية صرف، تستهدف الأساتذة المتدربين والأستاذات المتدربات الجدد، وتعمل على صقل أدائهم المهني وتحديد صعوباتهم، أثناء الممارسة الميدانية، إنصاتا ودعما وتوجيها ومؤازرة ومبادرة واقتراحا. ومن ثمة، إمكانية الحديث عن استدعاء الأستاذ المتدرب لوعيه النقدي وحسه التربوي، قصد تجاوز سائر المعيقات التربوية أو الديدكتيكية التي قد تعترض مساره التعليمي التعلمي، أثناء عملية التدريس.

ولأن الغاية من المصاحبة الميدانية هي تحقيق التواصل الإيجابي الفعال بين الطرفين: الأستاذ (ة) المتدرب (ة) والأستاذ (ة) المصاحب (ة)، من جهة، وتطوير كفايات المدرس المهنية في ارتباطها المباشر بأدائه المرحلي، من جهة ثانية؛ فإن استحضار عُدّة التكوين، بحمولتها النظرية والعملية، للبعد الوظيفي والبعد التبصري للمهننة، في ذات الآن، يظل أمرا مطلوبا وجب الحرص على بلوغه. لذلك، فقد تنوعت صيغ المصاحبة الميدانية وتعددت مهام الأستاذ المصاحب لها، تشخيصا وتأطيرا وتقويما.

4-    حول الإجراءات وصيغ التنزيل

استنادا إلى ما سلف، قد نجد أنفسنا، في سياق الحديث عن الإجراءات والصيغ المرتبطة بتنزيل المصاحبة الميدانية، مدعوين لقراءة نقدية متأنية لمسارها، وكيفية تنزيل مراسيمها على مستوى الإنجاز الواقعي. وهو تنزيل موفق، إلى حدّ بعيد، من جهة التخطيط له في الرؤية الاستراتيجية، حيث اعتُمد التدرج والتسلسل في تقريب الأساتذة المتدربين من عالم المهنة، وذلك بالاطلاع الأولي على الواقع الفعلي للوسط المدرسي، وتجميع كافة المعطيات المناسبة، قبل (توريطهم)، بالمعنى الإيجابي للكلمة، في صلب الممارسة المهنية. وهي مدعاة للتأمل والدراسة، قصد بيان مدى جودتها وجدّتها أيضا. وبالتالي، قياس مدى فعالية الأنشطة المقترحة لتجويد الممارسة المهنية والإسهام في تعميق الحس التربوي والبيداغوجي، لدى الأستاذ المتدرب، في مجال التكوين المستمر.

والواقع أنه، من خلال مواكبتنا المرحلية، عبر تكليفات إدارية رسمية، لمختلف المحطات المرتبطة بهذه المصاحبة الميدانية، فقد وجدنا كيف أن الأساتذة المتدربين انخرطوا جميعا، بشكل إيجابي وسريع مع الوسط المدرسي، مظهرين حماسة ظاهرة، وقابلية للتعلم والتأقلم.

كما أن الأساتذة المتدربين شكّلوا، أيضا، علاقات متنوعة وتواصلات إنسانية مع الأستاذ (ة) المصاحب (ة)، فيما هذا الأخير لم يبخل، بدوره، في تقاسم ثقافته ومعرفته العلمية، وكذا تجربته التربوية. وبالرغم من الإكراهات التي قد تعترض طريق لأستاذ المتدرب، والأكيد تعترض طريقه مثلما اعترضت طريق كل المتدخلين قبله في المجال؛ فإنك تراه يتجاوب مع المهمة المنوطة به، بما تيسر له من استعداد ورغبة وطموح واستشراف، وبما اكتسبه من زاد معرفي وحس حركي ووجداني وتبصري، أيضا، بمهنة التدريس.

ومن هنا، نعود إلى ما لدور الأستاذ المصاحب، في تيسير عملية الإدماج المرحلي للأساتذة المتدربين، وتدبيرها عبر تنويع الصيغ التدخلية، بدءا من تمارين على تدبير مقطع درس، في أحد مكونات اللغة العربية (قراءة/نصوص، لغة/علوم لغة، تعبير وإنشاء ومؤلفات) مرورا بتدبير مرحلة من الدرس، ثم تحمل جزئي للقسم، وصولا إلى الغاية المنشودة من كل ذلك، وهي التحمُّل الكلي لمسؤولية القسم، وبأقل الخسارات الممكنة.

5-    حول العلاقة بين الأستاذ المتدرب والأستاذ المصاحب

إن أهم ما يتلقاه الأستاذ المتدرب، خلال نزوله الفعليّ إلى الميدان بمؤسسات التطبيق، من عناية وتعهّد من قبل الأستاذ المصاحب، من شأنه أن يرسّخ طبيعة الواقع المهني المزاوَل والمتداوَل بالمدرسة المغربية عامة، وأن يحسّن الأداء المنشود، عبر الممارسة الأخلاقية والتشاركية بخاصة. إذ لا تقتصر المصاحبة على نوع واحد من الأجرأة والتفاعل الصفّي؛ وإنما هي مراوحة متنوعة مقصودة، بين الأبعاد البيداغوجية والاجتماعية والسلوكية والمادية.

كما لا تنحصر هذه العملية، بأنواعها المختلفة المذكورة، على توفير المادة التربوية من وثائق وأطر مرجعية ومراجع مختلفة للأستاذ المتدرب؛ بل بتزويده، بشكل ضمني أو صريح، بأخلاقيات المهنة وبروح المواطنة وكذا، بتنمية الحس الإبداعي، خلال تلك الفترة من تقاسم فضاء القسم.

هكذا، مع هذه الدينامية التربوية الحاصلة بين الطرفين باعتبارهما، وفق الإطار المرجعي لعدة التكوين بالمراكز، قد أصبحا شريكين في العملية التعليمية التعلمية، يرتفع سقف البعد التبصري للمهننة.

انسجاما مع هذا السياق التشاركي بين المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين والمؤسسات التعليمية التابعة للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بالمغرب، لا يمكن إلا أن نثمن أداء الأستاذ المصاحب الذي توكل إليه مهمة التتبع والتقويم العملي للأساتذة المتدربين، من خلال تمكينهم من فهم وضبط آليات المهننة، واستيعاب سليم لطبيعة الاشتغال الصفي داخل القسم الدراسي، سلوكا وممارسة.

أما الأهم من كل ذلك، فيتمثل في القدرة على ربط الصلة بين البعد النظري الملقن بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين وبين الجانب العملي الممارس بمؤسسات التطبيق. وهو المعنى الذي يجعل من البعدين النظري والتطبيقي وجهين لعملة تكوينية واحدة.

لقد بدا لنا جليا، أثناء مُصاحبتِنا لعمليات المُصاحبَة ومواكبة تفاصيلها الإجرائية عن كثب، أن الاحتكاك المرحلي للأستاذ المتدرب بالقسم وأجوائه، وبمجموعة التلاميذ وطبائعهم المتباينة، قد مكنّه من بعض الآليات والأدوات التي سيحتاجها، لا محالة، أثناء تسلّمه مقاليد التدريس العملي، بقرار رسمي، بعد النجاح والالتحاق الفعلي بمؤسسة التعيين. ولعل معاينتنا لردود أفعال الأساتذة المتدربين، ومناقشة تقاريرهم التي يعدونها بشكل متعاقب، بعد انتهاء كل مرحلة من مراحل المصاحبة الميدانية، تنم عن ذائقة تربوية وتفاعل إيجابي مع الأساتذة المصاحبين؛ بل وعن وعي بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم. فهم يعترفون بأنّ ما يُقدم لهم من مساعدة وتحفيز ودعم نفسي متنوع، يساهم في تصحيح تمثلاتهم الخاصة عن مهنة التدريس، ويعزز بعدهم التبصّري لفعل المهننة، من جهة، مثلما يساهم في تجويد عملية التكوين عبر الممارسة والإنتاج المهني، من جهة ثانية.

6-    حول وظائف المصاحبة وامتداداتها

لقد باتت المصاحبة الميدانية، بفعل انشغال العديد من الفاعلين التربويين بأدوارها وطرق تدبيرها، خلال فترة التكوين، منهم: الأساتذة والباحثون والمكونون والمفتشون والإداريون ومن نحا نحوهم، رهانا وطنيا وتربويا، في ذات الآن، يستهدف تأهيل الأستاذ المتدرب، وقت التحاقه بالقسم وتسهيل اندماجه في الحياة المدرسية. إنها، وفق هذا التصور، محطة رئيسة لا غنى عنها لتجويد التكوين والارتقاء به ارتقاءً ينسجم والرؤية الاستراتيجية المنبثقة عن الإصلاح التربوي العام.    

ومن أجل السابق باللاحق، يمكن تجميع أهم النقط التي استخلصناها، من بعض التقارير التي أعدها الأساتذة المتدربون في هذا الإطار، وكذا بعض الأسئلة التي وجهناها إليهم قصد التعبير عن رأيهم بشأن المصاحبة والتكوين عبر الممارسة، في المؤشرات الآتية:

- الاستئناس الحقيقي بالفصل الدراسي بعد أن كان مجرد توصيف في مجموعة من الدروس النظرية الملقنة، في حصص التكوين الحضوري بالمراكز الجهوية. فالقِسم لم يعد حجرة باردة لدروس جامدة؛ وإنما صار حيزا مكانيا ينبض بالروح والحركة والحياة. أبطاله مدرس ممارس ومتعلمون، فتيان وفتيات، من فئات عمرية مختلفة.

- جعل الممارسة الصفية موضع مساءلة وتحليل، انطلاقا من فهم جيد لدور الوساطة التي يقوم بها الأستاذ المصاحب، ويروم من خلالها تجويد علاقة الأستاذ المتدرب بتلاميذه وتحسين أدائه التربوي والديدكتيكي معا.  

- الإحساس بالمسؤولية واستشعار الصعوبات الآنية عبر التفاعل الجدّي معها، وبذل الجهد في مواجهتها واقتراح بدائل مناسِبة وموضوعية لمواجهتها. ولعلها نتيجة من نتائج التبصّر المهني القائم على اكتساب الكفايات وما يرافقه من تكون ذاتي.

- تطوير المهارات الحياتية واستثمار الكفايات المرتبطة بمواد التدريس المختلفة، مع ما يستلزم ذلك من حرص وتمثل للقراءة المنهجية المقترحة في المنهاج الدراسي. ومن ثمة، إثبات الهُوية المهنية للأستاذ المتدرب والمضي بها قدُما، نحو أفق التجويد والتقويم.  

وتماشيا مع ما سبق عرضه، نستنتج أن الغاية التربوية والديدكتيكية من النزول إلى الميدان المدرسي، تتمثل في المباشرة الفعلية للمهنة بأدوات في طوْرِ التشكيل والتعديل، بما يسمح بمحاورتها ومصاحبتها قصد التطوير والتمهير.

أما نجاح الأستاذ المصاحب في كسر حاجز الخوف والارتباك، ورعب الدهشة عند الأستاذ المتدرب، باعتبارها دهشة مقبولة ومستساغة في بدايتها، فرهان مرتبط أساسا، بالعلاقة التفاعلية التي تنشأ بين الأستاذ المصاحب والأستاذ المتدرب حيث تزول معها تلك التراتبية أحيانا، وبالتالي تتعزز معها مناعة تحصّن الممارسة المهنية. وتلك ملاحظة، كثيرا ما عبّر عنها الأساتذة المتدربون ولامسناها خلال متابعتنا لهم بمؤسسات التطبيق المتنوعة. 

7-    حول واقع المصاحبة الميدانية ورجع الصدى

لا شك أنه، مع هذه الإفادات السابقة، يكون من اللازم بسط بعض الملاحظات الأخرى، التي ترصد واقع المصاحبة الميدانية، كما بسطتها عينة من الأساتذة المتدربين (فوج 2022، على سبيل المثال)، خلال الإجابة عن خمسة أسئلة، كلفناهم بالإجابة عنها وهي:

1.    ماذا تعني لك الزيارات الميدانية بالمؤسسات التعليمية؟

2.    كيف تفاعلت مع الزيارة الأولى بهذه المؤسسات؟

3.    ما رأيك في دور الأستاذ المصاحب ومهمته؟

4.    ماذا استفدت من مرافقة الأستاذ المصاحب؟

5.    هل أنت مع المصاحبة الميدانية أم ضدّها، ولماذ؟

سنحاول أن نختزل ما في مضامينها من آراء ومواقف تفاعلية ومن انطباعات أولية، قابلة للإنصات والمراجعة، كما هي قابلة للتقويم والتحيين، نجملها في ما يلي:

أولا، الإحساس بجدوى التخطيط لدرس في أحد مكونات اللغة العربية مثلا، وأهمية تدبير الزمن فعليا لهذا الدرس أو ذاك، بعد أن كان الحديث عنه مجردا ونظريا في حصص التكوين، أو مسطرا في جذاذات توصيفية على الورق فقط. ناهيك عن التمثل الواقعي لمحتوى التدريس، وما يستدعيه من كفايات ثقافية ولغوية ومنهجية واستراتيجية، لعل استحضار تقنيات السؤال الديدكتيكي، يعد نموذجا فعليا لها.

ثانيا، اعتبار النزول إلى الميدان لحظةً كبرى لاستثمار الوعي المهني، عن طريق الملاحظة ومعاينة المشاكل الديدكتيكية المرتبطة بعمليات التدبير المختلفة للمادة الدراسية، وفق ما تم التخطيط لها في جذاذات تجريبية، تضم أسئلة متدرجة ومتنوعة، مع اقتراح جملة من الأنشطة المختلفة. وهكذا، يتجذر الوعي التربوي عند الأستاذ المتدرب حين يعمد الأستاذ المصاحب، بوسائط متفاوتة التأثير، على ترسيخ القيم الأخلاقية وتفعيلها، ممارسة وسلوكا.

ثالثا، الاقتراب من عوالم التلميذ/المتعلم واعتباره قطبا رئيسا في العملية التعليمية التعلمية، إذ بدونه لا معنى للتدريس ولا معنى للمهننة أو تنزيل للبيداغوجيات الحديثة. ولا شك أن التمرس بالقسم وبأجوائه، حافز للأستاذ المتدرب في أن يعمق ممارسته الصفية ويحقق بعض نجاحاته، على مستوى التدبير بأنواعه (الفصل، الزمان، المادة الدراسية وغيرها).

رابعا، التأثير السلبي الناتج عن قِصر المدة التدريبية أو تأخّرها أحيانا، بفعل طوارئ خاصة، مثلما كان الأمر مع أزمة "كورونا"، حيث الاستفادة تصبح محدودة جدا، إن لم نقل منعدمة أو متعذرة لأسباب متفاوتة. وهو ما يؤكد أنه لا غنى عن الممارسة الحضورية والفعلية بالمؤسسات التطبيقية، باعتبارها الوجه الحقيقي لمهن التدريس، كما لا غنى عن الأستاذ المصاحب، بوصفه داعما ومرافقا تربويا.

خامسا، اعتبار وقت الأساتذة المتدربين وقت راحة بالنسبة لبعض الأساتذة المصاحبين، يتجلى ذلك حين يُترك الأستاذ المتدرب، لأول مرة، وجها لوجه أمام التلاميذ بدعوى التأقلم وإزالة الدهشة. وقد ينجح هذا الخيار مع أستاذ متدرب، وقد يخيب مع كثيرين.

غير أنه، إذا كان عدد من الأساتذة المتدربين قد عبّروا عن قلقهم واستيائهم جراء هذا الاختيار، الذي يرمي بهم مباشرة في يمّ التدريس، قبل إتقان فن العوم؛ فإن آخرين أبانوا عن ارتياح كبير وهم يواجهون الفصل، بما اكتسبوه من مبادئ أولية خلال مرحلة التكوين بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وما لاحظوه في الأيام القليلة مع الأستاذ المصاحب بمؤسسة التطبيق، أول مرة.

سادسا، تلزم المصاحبة الميدانية شروطا للنجاح، منها الحرص على اختيار جيد للأستاذ المصاحب الذي ينخرط، بشكل إيجابي، في عملية المصاحبة لا أن يعتبرها إلزاما وثقلا تربويا، وتبعا لذلك، تنعكس المصاحبة سلبا على تلقي الأستاذ المتدرب. كما تلزم ضرورة الالتزام بدفتر التحملات تجنبا لأي عائق تواصلي بين زمن التكوين وزمن التدبير الميداني، وأيضا درءا لأي اختلاف مجاني بين تمثل الأستاذ المكون والأستاذ المصاحب، بشأن التصور التربوي لمفهوم المهننة.

8-    حول السؤال المعكوس بشأن الأستاذ المصاحب

إذا كنا، في بداية هذه المداخلة، قد تساءلنا عمّا يستفيده الأستاذ المتدرب أيضا، من الأستاذ المصاحب؛ فإننا، في نهايتها، قد نطرح أيضا سؤالا معكوسا يتمثل في:

-    ماذا يستفيد الأستاذ المصاحب من هذه المهمة التربوية؟

لعل الإجابة قد تكون متنوعة وقابلة للتعليل، وذات مداخل متعددة، نورد بعضا منها على سبيل الاختصار والتمثيل، ليس إلا:

- أن الأستاذ المصاحب، حين يتقاسم المعرفة والتجربة المهنية مع المتدربين، وهذا أمر وارد بحكم ما يستطيعه من تطوير للمهنة، لا يتوان في اقتراح حلول لمعالجة المشاكل التربوية التي تواجه الأستاذ المتدرب مرحليا أو تعوقه، لاحقا. وهي مبادرة لا تقف عند هذا المستوى التشاركي؛ بل تتعداه.

- أن الأستاذ المصاحب، قد يسترجع لحظاته الأولى، حين يرى نفسه في مرآة الآخر/ الأستاذ المتدرب يوم التحق، بدوره، لأول مرة بالتدريس، فيعمل جاهدا إلى إفادة المتدرب عبر تجنب مثل ما وقع فيه من قبل. وهو الأمر الذي يضفي على عملية المصاحبة الميدانية بعدها التبصّري وبعدها الموضوعي كذلك.

- أن الأستاذ المصاحب قد يكون بإمكانه أن يصحح تمثلاته هو أيضا، بخصوص بعض القيم السلوكية، بما فيها قيم المواطنة والمبادرة والإبداع. وقد صادفنا فعلا، في هذا المضمار، نخبة من الأساتذة المصاحبين وهم ينطلقون من الذات والتجربة في تمرير أساليب المهنة وتمهير المتدرب على الفعل التعليمي. فهم لا يكتفون بإعطاء الدروس والعمل على إتمامها أو التوجيه فحسب؛ وإنما يعمدون إلى دعم التعليم وتجويد فن القيادة المدرسية، وكذا تنمية الحس النقدي لدى الأستاذ المتدرب، في علاقته بما هو تربوي وبيداغوجي وديدكتيكي.

ولا شك أن أهم لحظة يمكن أن تميز تفاعل الأستاذ المصاحب، خلال فترة المصاحبة للأستاذ المتدرب، تظهر حينما يستشعر الروح الإيجابية، كلما وجد متدربيه يستحضرون مكتسباتهم النظرية والعملية ويستثمرونها جيدا، أثناء الممارسة الصفية داخل الفصل بمؤسسة التطبيق، في هذا المكون أو ذاك. ولعمري لهو المبتغى والمأمول في كل مصاحبة ميدانية تروم الارتقاء بجودة والتكوين وتسعى، بصورة أو بأخرى، إلى تعزيز البعد التبصري للمهننة.

9-    خاتمة

تشكل المصاحبة الميدانية أهمية بالغة في مجال التكوين عبر الممارسة، إذ لا يمكن الحديث عن تحقق الكفايات المستهدفة من التدريب الميداني، دون استحضار الأستاذ المصاحب. هذا الأخير، الذي يعد الظل المتابع والمرافق لكل المراحل التي يقطعها الأستاذ المتدرب داخل مؤسسة التطبيق. وقد أبانت هذه المصاحبة عن وظيفتها التربوية، وما تستطيع تحقيقه من تفاعل إيجابي بين الأستاذ المتدرب والأداة الدراسية، تخطيطا وتدبيرا وتقويما من جهة، وما تعكسه من إمكانيات واعدة في تمثل المهمة، عبر نماء الكفاية واستيعاب جيد للبعد التّبَصُّري للمهْنَنة، من جهة ثانية. 

مراجع

1-     عدة تأهيل الأساتذة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، الوثيقة الإطار، الوحدة المركزية لتكوين الأطر. وزارة التربية الوطنية. يوليوز 2012

2-     عدة تأهيل الأساتذة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، دليل التناوب. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. وزارة التربية الوطنية. يوليوز 2012

3-     عدة تأهيل الأساتذة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، دليل الاصطحاب. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. وزارة التربية الوطنية. يوليوز 2012

4-     مجزوءة تحليل الممارسات المهنية. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. وزارة التربية الوطنية. يوليوز 2018

5-     دليل الأستاذ المستقبل الخاص بالأنشطة الميدانية والتداريب بالمؤسسات التعليمية. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. مارس 2016

6-     الميثاق الوطني للتربية والتكوين، الصادر عن اللجنة الخاصة للتربية والتكوين سنة 9199

7-     مذكرة في شأن الترشح لمهام الأستاذ (ة) المصاحب (ة) بالأسلاك التعليمية الثلاثة الصادرة تحت رقم 16/95 بتاريخ 3 نونبر 2016

+ نشرت الدراسة بمجلة خيمة الفكر والإبداع للتربية والتكوين. منشورات المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. لجهة الداخلة وادي الذهب. العددان 4-5 شتنبر 2024. ص.ص 86-94


[1] - دليل الأستاذ المستقبل الخاص بالأنشطة الميدانية والتداريب بالمؤسسات التعليمية. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. ص7

[2] - دليل الأستاذ المستقبل الخاص بالأنشطة الميدانية والتداريب بالمؤسسات التعليمية. الوحدة المركزية لتكوين الأطر. ص7

[3] - نستعين في هذه المداخلة بتقاسم بعض النتائج والخلاصات الواقعية التي انتهينا إليها، خلال انخراطنا المباشر في مواكبة مختلف المحطات المتعلقة بالوضعيات المهنية للأساتذة المتدربين، بدءا من تخطيط مقطع إلى التحمل الكلي للدرس. بالإضافة إلى ما لاحظناه من تفاعلات متفاوتة بين الجانبين (الأستاذ المصاحب والأستاذ المتدرب) بشأن الرغبة في إرساء البعد التبصري للمهننة.

[4] - يمكن العودة إلى التفاصيل الواردة في ثنايا المذكرة الإطار. المرجع السابق. ص 1و2

تعديل المشاركة
author-img

أحـمـد زنـيـبـر

أكاديمي وناقد أدبي، أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين. رئيس فريق البحث "الخطاب البيداغوجي ورهاناته اللغوية والجمالية". عضو اتحاد كتاب المغرب وناشط جمعوي. له مؤلفات فردية وجماعية...
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق