يأتي تكريمُ الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، ضمن فعاليّات موسم أصيلة الثقافي الدولي الثالث والأربعين، اسْتِنادا إلى ما راكمَهُ من تجربةٍ طويلةٍ في حقْلِ الفِكر والفلْسَفة والتّرجمة والأدَب، قدّم خلالَها عددا من الأعمالِ الفرْدِيّة والمُشْتَركة، جاوزتِ الثلاثين كِتابا، ناهيكَ عن الأوراقِ والمقالاتِ النّقديّة والمُداخلاتِ الثقافيّة المُتَنوّعَة.
والظاهرُ أن شغفَ الكاتبِ بالقراءة
ِالتّأمُّلية، التي تنهلُ من ينابيعِ المعرفَةِ بروافِدها المُتعَدّدَة،
ومُتابَعتَهُ المُتأنّية لما تطرحُهُ دورُ النّشْر من مُؤلّفاتٍ وترْجَماتٍ
مختلِفَة، ظلّ ثابِثا لديهِ وهو يمارسُ فِعلَ الكِتابة، بما هي مساحةٌ للتّعبير
ومُختَبرٌ للتّفكير.
ارْتبَطَ اسمُ الباحث عبد السلام بنعبد
العالي بالفلْسَفة، وتميّز أسلوبُه في التّعامُلِ مع قضاياها الشائِكة بكَثيرٍ من
الضّبْطِ المفاهيميّ والحِرْصِ المنهجِيّ، كالتُّراث والحَداثة والتحْديث
والميتافيزيقا والمنْطِق والحَقيقَةِ والسُّلطَة والمعْرفَةِ والكِتابة. تراهُ
يتَنقّلُ بين المرجعيّتينِ العَرَبية والغَرْبية، في رَشاقةٍ لُغَويّة ومُرونةٍ
أدبيّة، تُراهِنُ، في ذاتِ الحين، على تَحْقيقِ المُتْعةِ والفائِدَة العِلْميّة.
لقد اهتَمّ بالفلْسَفة الإسْلامِية
وبالفلْسَفة المُعاصِرة، وجعَلهُما مَجالا رَحْبا للتّفْكيرِ والكِتابة، قِراءةً
وتحْليلا ونَقْدا وتأويلا. فالفلسفةُ، في تقديرِه وعُرْفِهِ، ليسَتْ حِفْظا
وترْديدا أو مُجرّد مفاهيمَ ومصطلحات أو مبادئ وقوانين؛ وإنّما ترْويضا للفكرِ
بالاخْتِلاف، وتعْضيدا للكِتابةِ بالتّأمّلِ والانْفِتاح.
وإلى جانِب ذلك، اهتَمّ بالتّرْجَمة، في
بُعْدِها التفاعُلِيّ، وأفْردَ لها حَيِّـزا مُهِمّا للتّعريفِ ببعْضِ أعْلام
الفلاسِفَة الغَرْبيين، من أمثال فريديريك نيتشه، جيل دولوز، ميشيل فوكو، بيير
بورديو، موريس بلانشو وجاك ديريدا، وغيرهِمْ مِمّن وجدَ في كتاباتِهم الفلْسَفِية
وتحْليلاتِهم المنهجِيّة مادّةً جديرةً بالقِراءةِ والمُتابَعة، لأنّها تُشكّـلُ
نمَطا مُغايِرا من التّفكير يحْتاجُ إلى قُدرةٍ ذهْنِيّةٍ للفَهْمِ والإدْراك. ومن
ثمّةَ، مُبَرِّرُ اخْتيارِهِ أنْ يتَقاسَم المادّة المُتَرجمَة، مَضْمونا وأسلوبا،
مع القارِئ العربِيّ، ويُشْرِكَه في مقروءاتِه وانْشِغالاتِه.
ولأنّ التفكيرَ في الفلسفةِ لَمْ يبْتعِدْ
بهِ يوما عن التّأليفِ فيها؛ فقد شكّلت، في مخْبَره الكِتابيّ، أداةً لفَنّ
العَيْشِ وقراءةً مسكونةً بالقلَقِ والسُّؤال. الفلسفةُ عندَهُ أيضا، بحثٌ عنِ
التأويلِ المُجاوِز للجاهِز والنّسَقيّ. بحثٌ متواصلٌ عمّا يجعلُ الحياةَ تحْيا في
التّعدد وتسمو بفكر الاختلاف، بعيدا عن الوثوقية المفرطة أو الامتلاءِ بالحقيقة
الواحدة. لقد اعتبر التفكير بالفلسفة مُقاومةً للبَلاهةِ بكُـلّ أشْكالِها
وأصْنافِها، وفَضْحا للأوْثانِ بكلّ حمولاتِها الفكرية. لذلك، لا غرابةَ أن
نُصادِف في مُؤلفاته العديدةِ ما يُحيل إلى انْصرافِه نحْوَ قضايا المجتمعِ
الرّاهن وما يخْتَرِقُه من ظواهرَ ومظاهِرَ، عبْر اليومِيّ والهامِشيّ.
وحينَ وجدَ بنعبد العالي في الكِتابة
معْبَرهُ إلى الذّاتِ وإلى الآخَر، كان اختيارُ الفلسفةِ أفقَهُ الممْتدَّ نحو التأمّلِ
الدّائمِ، والسؤالِ القائمِ على ما يُدعِّمُ استعمالَ الفِكْرِ والتّأويل. فلمْ
تكُنِ الفلسفةُ عندَهُ، بمعْزلٍ عن الكتابةِ، إذ وجدَ فيها معنى للسّفرِ الذي لا
يخْلو مِن مُكاشفَةٍ أو مُجازفَة. وما البحث في "ميتولوجيا الواقع"
و"ثقافة الأذن وثقافة العين" و"منطق الخلل" أو في "جرح
الكائن" و"حركة الكتابة" وغيرها من القراءات التأملية المغايرة سوى
دليل على ثقافته الواسعة. لقد امتَدّ انشغالُه الثقافي والمعرِفيّ إلى مجالاتِ
الأدب والنقدِ والتّاريخِ والسّياسة. كتبَ فيها بذاتِ الشّغَف الفِكريّ والشّغَب
المنْهَجي الذي لا يركنُ إلى المُعْتادِ والمألوف. تراهُ يُنقِّبُ في الموضوعاتِ
ويُقَلّبُـها ذات الشّك واليَقين، ناحِتا لنفسِهِ مُعجَما خاصّا بِهِ، يعكسُ
منظورَهُ في التحليلِ والتّأويل. بل حتى في ترجماتِه يبدو باحِثا
نبيها، وفي مختاراته يظهر مبدعا مُتفاعلا.
إنّ انْشِغالاتِ الكاتِب بالمجالاتِ
المذكورة، وإن بدَتْ مُنْفصِلةً ظاهِريّا؛ لم يمْنَعْهُ من التّعامُلِ معها
بِخلفيّةٍ فلسفيّةٍ، ووَعْيٍ كِتابيّ لا يُميز بين الأجناسِ ولا يكْترِثُ للحُدود
(الوهمية) في ما بينها. فلا شيْءَ يُثنيه عن مُواصَلةِ الحَفْر في صُنوف المعْرِفة
والعُلوم والآداب، من خلال انتقائهِ لنُصوص، تُراثية أو حَداثية مُتبايِنة، قابلةٍ
لوضْعِها تحت مجْهَر التّحليل الفلسفي، الذي ينْسجِمُ وتوجُّههُ الفكريّ والمنهجي.
لقدْ كانَ عبد السلام بنعبد العالي مَيّالا
إلى ثَقافَةِ التّعَدُّد وفِكْرِ الاخْتِلاف، مُنْتصِرا للحَداثة وحُريّة التعبيرِ
في نقْدِ التّفْكيرِ المُنشَدِّ إلى التّقليدِ، فلا يعْنيهِ غيْرُ الإيمانِ
بجَدْوى الكِتابةِ، في بُعْدها التّنويرِيّ. إنّها كِتابةُ مفْتوحَةُ
على كُـلّ الاحْتِمالات، تُسائل وتُناقش وتُحاور وفق مَنْطِق تعدُّدِيّ خاص. ولعلّ
قِراءةً في بعضِ عَناوين كتبهِ، في الفَلْسفَة وغيرها، تكشِفُ سِرّ هذا الولَهِ
والولَعِ بالكِتابة خارِجَ النّسَق، إذْ كُـلُّ كِتابةٍ، برأيهِ، حَمّالةُ أوْجُه
ومَعانٍ، تسْتَدعي معرِفةً بالكوْنِ وبالكائِن.
هكذا، بمِثْل هذا الوَعْيِ التّبَصُّري
والإيمانِ بجَدْوى الكِتابةِ، في بعديْها المـُتعدّد والمُتَجَدّد، يتَمثّلُ
القارئ جُزْءا كبيرا من مُنجَز الباحثِ والأكاديمي عبد السلام بنعبد العالي.
يُدرِكُ، لا محالةَ، أنّ الفلْسَفةَ عندهُ لا تسْتَهْدِفُ توحيدَ الثّنائِيات التي
اشْتَغل بها، ولا إلى الانْتِصار لِطَرفٍ من طرَفَيْـها ضِدّ الآخر، من قبيل
الثّباتِ والقفْزِ والثّقلِ والخِفّةِ والتّذكّرِ والنّسيانِ والأنا والآخَر
والكِتابةِ بيَديْن؛ وإنما لتُبَيّن أنّ في كُـلِّ طرَفٍ من طَرفَيْها يعْمَلُ
الآخَر.
ولعلّ في ما حَواهُ الكِتابُ التّكريمي، من
قِراءاتٍ تأمليةٍ عميقَة، ومن شهاداتٍ رشيقَة، احْتفَت بشخْصِهِ ونَصِّه، ما يُميط
اللثامَ عن كثيرٍ من القضايا الفلسفيّة والمنهجيّة، والنّقدية والثقافِيّة. تلكَ
القضايا المُثارَة في مقالاتِه ومؤلفاتِه وفي شذراتِهِ المُنْحازَة إلى القِصَر
والتّركيزِ، بدَلَ الإسهابِ والإطنابِ، عَمَلا بتعبيرِ الجاحِظ الشهير: "ما
قَلَّ ودَلَّ".
وإذا كانَ الباحثُ والمفكّر عبد السلام
بنعبد العالي صَديقا للكِتابِ، في تَشاكُلاتهِ الموضوعاتيّة، أدبا وتاريخا
وفلسفة ونقدا وعلم اجتماع؛ فقدْ كان أيضا، صديقا للكُتّاب، في تشَكُّلاتِهم
المعرفية والمنهَجيّة. ينْسُجُ مع هؤلاء علاقاتٍ مشفوعةً بكثيرٍ من المحَبّة
والنُّبْلِ والتّواضُع، ولا يتَردّدُ في التّفاعُل مع أفْكارِهم وكِتاباتِهم،
قِراءةً وترْجَمةً وتعْقيبا، مِثْلما أمْرُهُ مع عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح
كيليطو من المغاربة، أو مع رولان بارت وجان بوفري وغيرهما من الأجانِب.
لِذلك لا غرابةَ، أن تلْتَفّ حولَهُ ثُلّةٌ
مِن الأدباء والمفكّرينَ والنّقاد والمبدِعينَ، وتسْتجيبَ بكل أرْيَحيّة، إلى دعوة
تكريمِهِ وتدارُسِ أعمالِه والتّنْويهِ بخصالهِ وصِفاتهِ. وهو التِفافٌ مزدوج،
علميّ وإنسانيّ، في ذات الآن، ينِمُّ عن نُضجٍ وأصالة. ولعلّهُ، بهذا الصّنيعِ
الرّفيع، يتأكّدُ دونما شكّ، أنّنا إزاءَ علمٍ من الأعلامِ المُضيئةِ في سَماء
الفِكر والفلسفة والأدب، وحُقّ لنا، ولغيرنا، أنْ نفْخَر بأمْثالِه.
وإنّ في العُنوان العَريضِ الذي اقتُرِح
لهذا الكِتاب: "الكِتابَةُ أفُقا لِلْفِكْر"، ما يوحي بالتّقاطُعِ
والانْسِجامِ مع ما اقتُرحَ من عَناوين ومَحاوِرِ تِلكُم المُداخَلات، التي مسّتْ
جَوانِبَ مُهمّةً مِمّا يُميّزُ هذه الكتابةَ، في سياقاتِها ومساقاتِها المختلفة،
ومِمّا تعكسُه مضامينُها من تكاملٍ، يُفضي إلى مَسارِبَ أخرى لسَبْرِ أغوارِ
المَسار العِلْميّ والإنْسانِي للمُحْتفى بهِ.
فهنيئا للباحِثِ الفلْسَفي عبد السلام بنعبد
العالي بهذا الاحتفاءِ الرمزيّ والإنسانيّ، من قِبل مؤسسة منتدى أصيلة، إسْوةً
بِما فعَلَتْهُ سابِقا معَ أمْثالِه، تجْسيدا منها لثقافةِ الاعتراف، وتمْجيدا
لجُهود مَنْ وهَبوا حياتهم لخدمةِ المغربِ الثّقافي. وهنيئا، أيضا
للقُرّاء والمُهْتمّين، بهذا الإصدارِ الذي يتيحُ لهُمُ الاقترابَ مِن عالَمِهِ
وعَوالمِهِ، في مجالِ الحَياة والكِتابَة.
------------------------------
نشرت المداخلة ضمن الكتاب الجماعي "عبد
السلام بنعبد العالي الكتابة أفقا للفكر" إعداد وتنسق أحمد زنيبر وعبد الإله
التهاني. منشورات منتدى أصيلة 2022
إرسال تعليق